الثامنة صباحاً، أو بعدها بقليل، هو الموعد المفترض لعودة صيادي بلدة العريضة الحدودية من عرض البحر لإفراغ شباكهم مما علق بها من أسماك، تمهيداً لبيعها في المزاد الذي يبدأ في العاشرة صباحاً في بلدة العبدة المجاورة. كان ذلك قبل فرض الرمول والأوساخ عند مصبّ النهر الكبير «حصاراً» مطبقاً على مراكب الصيادين بما يمنعهم، منذ ستة أشهر، من اجتياز النهر والخروج الى البحر.
أهالي العريضة وصيادوها بين فكّي كماشة: من جهة إهمال الدولة المزمن الذي يسد عليهم سبل العيش، ومن جهة أخرى «حصار» محكم من الجانب السوري يحول دون دخول الصيادين الى عرض البحر، خوفاً من الاقتراب من المياه الإقليمية السورية، والتعرض لملاحقة خفر السواحل السوري، وخصوصاً أن البحر استخدم مراراً، إبان الأحداث السورية، من قبل المهربين والتجار لنقل أسلحة وممنوعات أو لتهريب البشر، قبل أن تعمد البحرية اللبنانية، من جهتها، الى ضبط الأمور.
سكان البلدة التي تضم معبر العريضة الشهير، والذين يناهزون الـ 1800 نسمة عاجزون عن تدبر أبسط أمور الحياة، وحتى تأمين مستوعب لرمي النفايات بدلاً من رميها في مصب النهر. إذ «لا مجلس بلدياً لمتابعة شؤون البلدة الإنمائية، أما أموال إنعاش القرى فلا نسمع بها على الإطلاق»، بحسب الأهالي.
في محاذاة المنازل الصغيرة الواقعة على الجانب اللبناني من ضفة النهر الكبير، تعيش مئات العائلات بفقرها وقلّة حيلتها. تحاول العاملة في مدرسة «العريضة الرسمية المختلطة» تبرير وجود النفايات أمام مدخل المدرسة، بأن المديرة تعمد أسبوعياً الى دفع أجرة عامل لتعزيل النفايات، لكن الأهالي اعتادوا رمي الأوساخ في البحر، ومع انسداد المجرى تجمعت النفايات وتراكمت أمام المنازل.

تعزيل مجرى النهر يشكل غطاءً لشفط رمول الشاطئ العكاري


لقمة عيش الأهالي تكاد تذهب «فرق عملة» بسبب «تواطؤ» الطبيعة مع وزارة الأشغال. فمن جهة، يشهد مجرى النهر انتشاراً لنبتة «ساق البطة» التي «نعاني منها منذ سنوات، وهي تغطي مجرى النهر وترتفع باتجاه المنازل جراء إغلاق المنفذ البحري أمامها، ما أدى الى تكاثر الحشرات والأفاعي التي باتت تدخل منازلنا»، بحسب الصياد محمود إسماعيل. ومن جهة أخرى، تأخرت الوزارة نحو ستة أشهر في تعزيل المجرى، ما عرقل نزول الصيادين الى البحر بسبب تراكم الأوساخ والسيول وتكاثر النبتة «الغريبة».
ويؤكد أهالي المنطقة «أن ضغوطاً سياسية وأمنية أدت الى تأخير تعزيل مجرى النهر بسبب التنافس للحصول على الرخصة بين متعهدين دأبوا على استباحة شاطئ عكار. فعلى مدى السنوات الماضية، تم استغلال رخصة تعزيل النهر بهدف شفط الرمول على طول الشاطئ العكاري الممتد على مسافة 20 كلم، من مفترق حمص حتى الحدود السورية عند بلدة العريضة. وغالباً ما كانت الأعمال تجرى على مدار السنة بدل الالتزام بالمهل القانونية التي يتضمنها الترخيص.
أخيراً، لاحت بوادر فك «الحصار» مع بدء شركة «كونكورد للمقاولات العامة» أشغال فتح مدخل النهر عند مصبه في البحر. والظاهر، حتى الآن، أن الشركة تلتزم بمضمون الرخصة، إذ يجري جرف الرمول وتجميعها ونقلها الى محاذاة نقطة الجمارك اللبنانية، تحت أعين القوى الأمنية وخفر الشواطئ. لكن الأمر لا يحظى برضى الصيادين «لأن الوضع سوف يعود الى ما كان عليه بعد أقل من شهر. فالرياح ستعيد الرمول الى البحر مع أول عاصفة تهب على المنطقة»، يقول الصياد منذر الدرويش «إن أحداً لم يكترث لوضعنا طوال هذه الفترة، وكاننأ غير موجودين على الأراضي اللبنانية، وما نخاف منه هو تكرار معاناتنا وعودة إغلاق السنسول المؤدي الى البحر». ويتساءل كثر كيف يمكن تعزيل مجرى النهر وتفريغ الرمول على الشاطئ؟ ولماذا لا تعمد الدولة إلى وضع يدها على الرمول المستخرجة وتبيعها بدلاً من أن تذهب إلى التجار والسماسرة؟
يصف الصياد حسام حميد ما يجري بالمسكّنات الظرفية «فنحن محاصرون من جميع الجهات وفي كل الفصول. إذ لا يمكننا الخروج إلى البحر صيفاً بسبب جفاف النهر الكبير الذي نعبره للوصول الى البحر، وفي الخريف منعنا من تعزيل المجرى، وفي الشتاء تفرض العواصف والسيول إقفال المجرى»، لافتاً الى «أن تعزيل مجرى النهر ضروري، لكن الحل الجذري لا يكون سوى بإيجاد مرفأ للمنطقة وسنسول كبقية المناطق اللبنانية».




مخاطر «ساق البطة»

لنبتة «ساق البطة» أضرار كبيرة وكثيرة على الحياة المائية، بحسب ما يشرح رئيس «مجلس البيئة في عكار» الدكتور أنطوان ضاهر، مشيراً إلى أن هذه العشبة تحجب ضوء الشمس عن الأحياء الأخرى وتحديداً النباتات التي تشكل القاعدة الأساسية للنظام البيئي والغذائي الأساسي للأسماك. ويوضح أن هذه النبتة «معروفة في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية وهي جديدة في مناطقنا، وعلى الأغلب أنها انتشرت في شبكات قنوات الري خلال فترات السيول. وهي غير سامة، بل على العكس تحتوي على البروتين، وبإمكان الحيوانات تناولها، لكن خطرها يكمن في تكاثرها السريع، ما يؤدي الى تشكل نوع من الأدغال المائية، ما يلحق الضرر بالبيئة النهرية». وشدد الضاهر على ضرورة «تعزيل مجرى النهر باستمرار ومكافحة النبتة من قبل وزارة الزراعة لمنع انتشارها وتمددها الى أماكن وأنهر أخرى».