ما بين الرئيس اللبناني ودافيد ساترفيلد، المساعد الجديد لوزير الخارجية الاميركي ريكس تيلرسون، فسحة رحبة ومعمرة من سوء التفاهم تعود الى نحو ثلاثة عقود تقريباً. عندما ترأس العماد ميشال عون الحكومة العسكرية الانتقالية بين عامي 1988 و1990 كان دافيد ساترفيلد سكرتيراً ثالثاً ومستشاراً سياسياً في السفارة الاميركية في بيروت، وكان وراء قرار اقفال السفارة في ايلول 1989 ونقل طاقمها كله على عجل الى قبرص.
حينذاك، في ذروة المواجهة بين عون وسوريا واعلانه لشهور خلت حرب التحرير على جيشها عامذاك، ومن ثم انتقاد واشنطن هذا الاعلان وتوقيته، تظاهر مؤيدون لرئيس الحكومة العسكرية الانتقالية، كان على رأسهم الراحل جبران تويني وعشرات من الشباب، حاصروا مقر السفارة في عوكر، ما حمل ساترفيلد ليلاً على اخراج طاقمها الاميركي منها، بمن فيه الحراس والطباخون حتى. استمرت السفارة غائبة عن لبنان حتى تشرين الثاني 1990، في الشهر التالي لاطاحة عون.
اعاد حصار سفارة عوكر الى الاذهان حصار السفارة الاميركية في طهران عام 1979 واتخاذها رهينة، ما حتّم اخلاءها العاجل بعدما تيقن مسؤولو السفارة من ان «الجنرال» لن يردع المتظاهرين والمعتصمين فحسب، بل يضمر موافقته على تصرّفهم. بعد شهرين فقط، مع انجاز تسوية الطائف وانتخاب الرئيس رينه معوض، تحرّك السفير الاميركي الجديد جون مكارثي من قبرص الى اهدن، كي يجتمع بالرئيس الجديد، من دون ان يعمد قبل انتخاب معوض الى تقديم اوراق اعتماده في لبنان الى عون، وكانت حكومته العسكرية الانتقالية تمثل الشرعية الدستورية. وازن مكارثي بينه وحكومة الرئيس سليم الحص الى حين حسمت واشنطن انحيازها الى معوض.
في غياب عون في المنفى، حل ساترفيلد على رأس سفارة بيروت ما بين عامي 1998 و2001، حاضراً الانتقال من عهد الرئيس الياس هراوي الى عهد الرئيس اميل لحود. كان كتب في ما مضى الى عون، صيف 1989، يحضه باسم مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط ريتشارد مورفي على تسهيل انتخاب رئيس للبنان و«نحن لن ننسى فضلك»، لكن «الجنرال» رفض العرض مجدّداً على غرار العرض الاول لمورفي في ايلول 1988. الا ان الديبلوماسي الاميركي لم يتردّد يوماً في القول انه رفض عام 2003 استقبال عون ــ وهو لما يزل في منفاه ــ في واشنطن، في مرحلة التحضير لـ«قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان» قبل اقراره في الكونغرس في تشرين الثاني عامذاك.

مع ساترفيلد يرتفع قرار لبنان من السفيرة الى مساعد وزير الخارجية



موقفان بارزان علقا في الاذهان في مرحلة ترؤس ساترفيلد سفارة بلاده: اولهما تنديده بهجمات حزب الله على الداخل الاسرائيلي، رغم تبريره الضمني بحقه في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي للجنوب، وقد شهد جلاءه عنه عام 2000. ثانيهما سهره على تطبيع العلاقات الاميركية ــ السورية في لبنان، وتالياً دفاعه عن وجود الجيش السوري على الاراضي اللبنانية الى حين تسوية ازمة المنطقة، متفهماً دوافع هذا الوجود بتوفير الاستقرار الداخلي للبلاد وضمانه. وخلافاً للدور الذي لعبه في ما بعد خلفه السفير جيفري فيلتمان منذ مطلع 2005، اشهراً قليلة بعد مباشرته مهماته في ايلول 2004، بانحيازه الى فريق لبناني ضد آخر والتورّط في تفاصيل الشؤون اللبنانية، وكانت العلاقات الاميركية ــ السورية باتت على فوهة مدفع منذ حرب العراق قبل سنتين، ثابر ساترفيلد ما بين عامي 1998 و2001 على تأكيد دعمه الشرعية اللبنانية بما فيها اسباب استمرار وجود سوريا في لبنان، منتهزاً اجتماعه مرة تلو اخرى بالرئيس نبيه بري كي يهاجم حزب الله، ما احله في علاقة مترجحة مع المعارضة المسيحية وقتذاك.
الآن بات مساعداً لوزير الخارجية الاميركي، ينتظر موافقة مجلس الشيوخ على تعيينه بعد الاستماع اليه. وكانت السفيرة في بيروت اليزابيت ريتشارد ابلغت الى رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل قرار التعيين.
مع ان حلول ساترفيلد، الواسع الالمام بالشؤون اللبنانية ومراجعها ورجالاتها، في منصبه لا يعيد ترتيب لبنان في سلم الاولويات الاميركية في المنطقة، وهو في الواقع في أدناها الآن لكونه البلد الاكثر الاستقرار، الا ان من شأن هذا التعيين الارتفاع بكل قرار يتصل بلبنان، للمرة الاولى منذ عام 2011، من مستوى السفيرة الى مستوى مساعد وزير الخارجية.
مذ بدأ انهيار الانظمة العربية عامذاك، في ظل السفيرة السابقة مورا كونيللي، اقتصر القرار عليها، كما الذين خلفوها، في وقت شغلت مكاتب الشرق الاوسط في الخارجية الاميركية بأحداث تونس ومصر وليبيا وسوريا، ناهيك بالعراق. كان في الامكان العثور على 20 موظفاً في المكاتب المختصة بشؤون البلدان تلك، في حين يعثر بالكاد على موظف واحد يسأل عن لبنان. مذذاك، وصولاً الى شغور الرئاسة اللبنانية، اقتصر اهتمام الخارجية الاميركية من خلال السفير في بيروت على توجيه ثلاث رسائل فحسب الى اللبنانيين لا تنفصم احداها عن الاخرى: استمرار الشرعية الدستورية والحؤول دون انقطاعها بأي ثمن، ضمان الاستقرار الامني، المضي في دعم الجيش والوقوف الى جانبه ضد الارهاب ومدّه بالمساعدات العسكرية.
منذ انتخابه رئيساً للجمهورية قبل عشرة اشهر، لم ترسل واشنطن اشارة ايجابية الى عون بعد، ولا بدا انها في صدد تطبيع علاقتها به. نظرت اليه على الدوام منذ عام 2006 الى انه حليف مسيحي رئيسي لحزب الله يدافع عن سلاحه ويبرره، فلم تتسم علاقته بأي من السفراء المتعاقبين بود ملحوظ، من غير انقطاع خيط التواصل. حينما ذهب الحريري الى واشنطن كانت السفيرة اليزابيت ريتشارد وراء الحض على استقباله هناك. مع اندلاع حرب جرود عرسال، في غياب السفيرة التي رافقت الحريري الى واشنطن، لم يخفِ موظفون اميركيون رفيعو المستوى امتعاضهم من قيادة حزب الله هذه الحرب، قبل ان تعمد السفيرة لدى عودتها الى تعميم هذا الاعتراض على المسؤولين الذين اجتمعت بهم.
في المقابل، لم يبدِ الرئيس بعد حماسة كافية لمقاربة جديدة لملف علاقته غير الودية بالاميركيين، ولم يُحط نفسه بفريق يوليه الاهتمام المطلوب. على الاقل ينقصه ما ينجح فيه المحيطون بالحريري.