مساء الثالث عشر من آب 2006، عشية سريان وقف إطلاق النار، عقدت الحكومة الإسرائيلية آخر جلساتها خلال الحرب وسط أجواء قاتمة ومتوترة. قدّم وزير الأمن الإسرائيلي عمير بيريتس خلال الجلسة مداخلة أدلى فيها بخلاصاته الشخصية لنتائج الحرب قائلاً: «لم نخسر... لم يكن ثمة انتصار، لكننا لم نخسر بأي حال من الأحوال. حتى لو لم ننتصر، إلا أننا لم نخسر»!
بدا كلام عمير بيريتس، أحد أضلع الثالوث المسؤول فعلياً عن الحرب، إلى جانب كل من رئيس الوزراء إيهود أولمرت ورئيس الأركان دان حالوتس، تعبيراً عن «مشاعر النفور والخيبة العميقة والهلع التي جرفت الجمهور الإسرائيلي»، بحسب إحدى افتتاحيات صحيفة «هآرتس» غداة الحرب. الصحيفة تحدثت عن المفارقة المأساوية التي وقعت إسرائيل فيها في تلك الفترة: «حكومة جديدة، برئاسة حركة سياسية جديدة تعهدت بوضع حدّ للاحتلال، قادت، أو ربما بشكل أدق، قادها جيش مغرور وصدئ إلى هزيمة أليمة، مخيّبة للآمال ومحمَّلة بالمخاطر في حرب ضد حزب الله».
في وقت لاحق، سيكمل تقرير فينوغراد المشهد الوصفي لحالة إسرائيل ما بعد الحرب من خلال إضافة عبارة «الانكسار» إلى أدبيات هذا المشهد، ويحسم النقاش حول نتائج المواجهة جازماً بأنها شكلت «إخفاقاً كبيراً»، وانتهت «من دون أن ننتصر فيها».
ستمر بعد ذلك ردهة من الوقت على إسرائيل، تكون سمتُها الأساس السعي إلى الخروج من صدمة الانكسار واستعادة ثقة الجيش بنفسه وثقة الجمهور به. في سبيل ذلك، ستُروَّج رواية «الهدوء غير المسبوق» على الحدود الشمالية الذي تحقق بفعل الردع الفعّال للجيش؛ وطوال نحو أربعة أعوام ما بعد الحرب، ستكون المعزوفة الأكثر حضوراً في الأدبيات الاستراتيجية الإسرائيلية هي: في الحرب المقبلة، سنحقق انتصاراً سريعاً وحاسماً وواضحاً على أرض العدو وبأقل ضرر ممكن على الجبهة الداخلية الإسرائيلية».
لكن إسرائيل لن تنتظر لتخوض ثلاث حروب فاشلة في غزة، كي تُدخِل التعديل اللازم على معزوفتها تلك، ولتصل إلى الخلاصات المستحقة بشأن حربها المقبلة مع لبنان.

الانتصار، بالمعنى الإسرائيلي التقليدي، صار إرثاً نوستالجياً
لا مكان له في
واقع اليوم


لماذا مع لبنان حصراً؟ لأن المقاومة «المتعاظمة» فيه هي «التهديد الأول والرئيسي» الذي بقي محدقاً بإسرائيل في مرحلة ما بعد «الربيع العربي»، وما أفضى إليه من تفكك ما بقي من جيوش عربية وازنة (سوريا) أو استنزافها بعد استرهان نظامها السياسي (مصر).
الحقيقة المفتاحية في هذه الخلاصات هي أن الانتصار، بالمعنى الإسرائيلي التقليدي، صار إرثاً نوستالجياً لا مكان له في واقع اليوم، وأن شروط السرعة والحسم والوضوح في تحقيقه على أرض العدو وبأقل ضرر ممكن على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، باتت أقرب لأن تكون كليشيهات دعائية غايتها رفع الروح المعنوية للإسرائيليين، أكثر منها إطاراً عملياً لأهداف أية حرب مستقبلية مع حزب الله. والأهم، في هذا السياق، أن القادة الإسرائيليين أنفسهم أجروا المراجعات المطلوبة على خطابهم ذي الصلة، ليصبح متصالحاً مع سقف التوقعات الواقعية للمواجهة المقبلة مع المقاومة في لبنان.
عاموس يادلين، مثلاً، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية والرئيس الحالي لمعهد أبحاث الأمن القومي، أقرَّ في كلمته الافتتاحية للمؤتمر السنوي للمعهد في كانون الثاني الماضي بأنه «لم يعد هناك نصر حاسم من قبل إسرائيل... هذه القصة انتهت عام 1967...الحروب ستكون أطول ولن تكون حاسمة».
يوآف هار إيفين، الرئيس السابق لشعبة العمليات في جيش العدو، اعترف بدوره، خلال كلمة في «مؤتمر النار الدولي الثالث» (2014) بأن «أيام الانتصارات الحاسمة، صفر في مقابل واحد، ولّت...علينا أن نروي الحقيقة لأنفسنا». زميله، القائد السابق للذراع البرية في الجيش، غاي تسور، قال في المناسبة نفسها إنه «لم يعد يوجد بعد اليوم انتصار بالضربة القاضية، فكل كتيبة ستجلب انتصاراً، والمجموع النهائي لهذه الانتصارات سيؤدي إلى الانتصار في الحرب».

الرئيس الحالي لأركان الجيش، غادي آيزنكوت، تحدث في كلمة له لمناسبة الذكرى الخامسة لـ«حرب لبنان الثانية»، وكان حينها قائداً للمنطقة الشمالية، عن اختلاف مفهوم النصر: «في السابق، كان النصر بالحسم، والآن صار النصر بتحقيق الأمن»، علماً أن آيزنكوت عاد ليتحدث عن «الانتصار الحاسم» منذ توليه رئاسة الأركان لأسباب يمكن عَزْوُها إلى مقتضيات منصبه.
وزير الأمن الحالي، أفيغدور ليبرمان، أشار بصراحة لافتة خلال مؤتمر هرتسليا في تموز الماضي، إلى «غياب الانتصارات» الإسرائيلية منذ عام 1967، الأمر الذي عرقل، برأيه، التسويةَ الإقليمية وتطورَ العلاقات مع الدول العربية. وقد يكون الأشد دلالة في هذا السياق هو نهج المراوغة والضبابية الذي صارت تعتمده الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ما بعد حرب 2006 في إعلان الأهداف السياسية والأمنية للحروب التي تشنها. هذه الحكومات صارت تبتعد ما أمكن عن التحديدات الواضحة والصريحة التي يمكن أن يُفهم منها السعي إلى إحداث تغيير استراتيجي كهدف للحرب، وتفضِّل الصياغات العامة التي تتيح التملص في الحكم على نتائج الحرب، مثل: «الحفاظ على الهدوء، تعزيز الردع، إعادة الوضع إلى ما كان عليه، توجيه ضربة قاسية للعدو... إلخ». ما الذي حصل إذاً كي نشهد هذا التحوّل في إسرائيل؟

العقيدة الأمنية: انتهاء الصلاحية

يتلخص المبدأ الأساسي الذي انْبَنَت عليه العقيدة الأمنية الإسرائيلية بجملة واحدة: «التنازل شبه الكامل عن قدرة الصمود لصالح السعي نحو تحقيق الحد الأقصى من قدرة الحسم». من الناحية العملية، عكس هذا المفهوم محاولة واضحة من جانب واضعي العقيدة المذكورة للقفز فوق جملة من نقاط الضعف البنيوية التي يعاني منها الكيان الإسرائيلي على المستويين الجغرافي (فقدان العمق) والديموغرافي (تعذر الاحتفاظ بجيش نظامي كبير).
إلى الحسم، أضيف لاحقاً مبدأ الردع والإنذار، لتتبلور بذلك دائرة نظرية متكاملة تتألف من ثلاثة مقاطع:
ــــ الردع: العمل على منع الأعداء من المبادرة إلى شن الحرب عبر تكريس القناعة في وعيهم بأن كلفتها ستكون باهظة جداً ونتيجتها المرجحة هي هزيمتهم.

حرب 2006 هي المحطة التي انهارت عندها العقيدة الأمنية الإسرائيلية في مواجهة نموذج المقاومة


ــــ الإنذار: عندما يفشل الردع في تحقيق الهدف المرجو منه، تنتقل المهمة إلى الاستخبارات لتوفير الإشعار المبكر بأن الأعداء يخططون للمبادرة إلى حرب، وذلك كي يتسنى للجيش الاستعداد في الوقت المناسب لها، خصوصاً لجهة تجنيد الاحتياط.
ــــ الحسم: لدى اندلاع الحرب، يتوجب إبعادها عن الداخل الإسرائيلي ونقلها إلى أرض العدو وتحقيق الانتصار الواضح فيها هناك خلال فترة زمنية قصيرة. وبحسب الأدبيات العسكرية الإسرائيلية، فإن الترجمة العملية لمفهوم الحسم تعني التسبب بـ«سقوطٍ حادٍّ» للعدو، ويتحقق ذلك عبر «تدمير قوته العسكرية القتالية بشكل رئيسي والسيطرة على مساحات الانتشار والمناورة الخاصة به»، بحيث يفقد القدرة و/أو الإرادة على مواصلة القتال.
ويُفترض بهذا «السقوط الحاد» ــــ من وجهة نظر العقيدة الأمنية الإسرائيلية ــــ أن يؤسس لردع العدو عن التفكير في الحرب القادمة، وهو ما يعيد ربط حلقات العقيدة المذكورة بين نقطتي النهاية والبداية.
هذه النظرية شكّلت الرد الإسرائيلي على التهديدات التي جسّدها أعداءٌ تقليديون تمثّلت قوتهم العسكرية بجيوش نظامية اعتمدت تكتيكات قتالية كلاسيكية تقوم على المناورة المدرعة والنار المحدودة ضمن نطاق ساحة المعركة. لكن خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تبددت تقريباً التهديدات التقليدية في ظل المتغيرات التي شهدتها البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، وأهمها خروج مصر من دائرة المواجهة وانسحاب سوريا من سباق «توازن القدرة» مع انهيار الاتحاد السوفياتي قبل غرقها في حربها الكونية لاحقاً، إضافة إلى سقوط الجبهة الشرقية في أعقاب احتلال العراق وتدمير جيشه. إلا أنه في موازاة ذلك، سُجل تقدمٌ صاعد لنوع آخر من التهديدات تمثّل في مبنى قدرات ونظرية قتالية كانت المقاومة في لبنان أول من جسّدهما. هنا اعتُمد نموذج الانتشار اللامركزي الممتد نحو العمق لمنظومات الدفاع البري المتنوعة الأشكال، وكذلك منظومات الهجوم الصاروخي الناري المختلفة الأنواع والأمداء.
التحدي الذي فرضه نموذج المقاومة هذا أفرغ فعلياً العقيدة الأمنية الإسرائيلية من محتواها العملاني: فهو، من جهة، أتاح التصويب على المقتل في قدرة الصمود من خلال استهداف الجبهة الداخلية بصورة مباشرة ومؤثرة، ومن جهة أخرى، اشتغل على تقويض قدرة الحسم عبر اعتماد أسلوب الاستنزاف الميداني المستند إلى سرِّية القدرات وتشتتها.

التهديد باستهداف الدولة اللبنانية انعكاس للإقرار بالعجز عن الحسم ضد حزب الله


وقد شكلت حرب تموز 2006 نقطة الذروة التي اصطدم عندها هذا النموذج بعقيدة إسرائيل الأمنية فأدى عملياً إلى... انهيارها. فالجبروت الإسرائيلي فشل في ردع المقاومة عن تنفيذ تهديدها المعلن في أسر جنود إسرائيليين، كما أن الاستخبارات أخفقت في تحديد موعد العملية وساحتها فضلاً عن رصد الاستعدادات لها، فيما الحرب التي شُنّت في أعقاب ذلك كانت تظهيراً لحالة فشل متراكمة في القدرة على تطبيق كل واحد من مكونات مفهوم الحسم: لا الجيش الإسرائيلي نجح في تحييد الجبهة الداخلية، ولا هو تمكن من حصر المعركة في أرض العدو، ولا أفلح في سلب عدوه قدرة القتال، فضلاً عن إرادته، ولا قدر على تحقيق نصرٍ، بشهادة كل من بيريتس وتقرير فينوغراد وغيرهما.

ترميم بدون طائل

في حرب تموز اكتشفت إسرائيل، بحسب أحد محلليها العسكريين، أنها تستخدم في مواجهة المقاومة قوالب التفكير العسكري نفسها التي استخدمتها على مدى عقود قبالة الجيوش العربية. عليه، كان لا بد من إعادة النظر في هذه القوالب، بما يفضي إلى تحديث العقيدة الأمنية لجعلها أكثر تناسباً مع التهديدات المستجدة. وبعيداً عن مبدأَيْ الردع، الذي سلّمت إسرائيل بتبادليته مع حزب الله، والإنذار، الذي لا يُعدّ ذا صلة في حالة مقاومة تقدم نفسها (حتى الآن) على أنها حالة دفاعية غير مبادِرة (إلا بما يخدم الدفاع والردع)، فإنه يمكن القول إن التعديلات الأهم التي اشتغلت إسرائيل على استحداثها في عقيدتها الأمنية تمحورت حول نقطتين:
ــــ الأولى: تعزير «قدرة الصمود» من خلال إضافة ضلع رابع إلى ثالوث الردع ــــ الإنذار ــــ الحسم، هو «الحماية» التي تعني تحصين الجبهة الداخلية من التأثيرات المباشرة للحرب (خسائر بشرية ومادية) وذلك عبر منظومات الاعتراض الصاروخي، وصافرات الإنذار وتصفيح المباني وما شاكل.
ــــ الثانية: تعزيز القدرات الهجومية، النارية على وجه الخصوص، بالاستناد إلى بنك أهداف واسع، تشيع إسرائيل دائماً أنه يشتمل آلاف النقاط ذات الصلة بالقدرات القتالية للمقاومة. لكن الأهم، هو التأكيد المتكرر لإسرائيل بأنها في الحرب المقبلة سترى في الدولة اللبنانية، بجيشها ومنشآتها، أهدافاً رديفة لحزب الله، وتالياً مشروعة.
ماذا يعني ذلك؟ استحداث «الحماية» يعني حصرياً أن إسرائيل استسلمت لحقيقة أن جبهتها الداخلية ستكون جزءاً عضوياً من ساحة عمليات أية مواجهة مقبلة، ولا إمكان للحؤول دون ذلك، لا بالضربة الاستباقية، ولا بنقلها إلى أرض العدو، ولا بأي تفوق نوعي عسكري يمكن أن تحوزه. ويُظهر حجم الإجراءات والإمكانات التي تخصصها إسرائيل لحماية جبهتها الداخلية أنها تستشرف إيقاع أضرارٍ بها (من حيث الشدة والعمق ونوعية الأهداف) بأحجام يبدو معها ما حصل في حرب 2006 أشبه بألعاب نارية، أو مجرد «عينة مخبرية».
الحقيقة الأكثر أهمية، هي أن «الحماية»، بما تعنيه من استثمار في قدرة الصمود، تعكس الإقرار الإسرائيلي (الذي جرى استعراضه أعلاه) باستحالة الحسم السريع للحرب، بل وأن كل القدرات الهجومية التي جرى تطويرها واستحداثها لا تكفل ذلك من الناحية العسكرية البحتة (إشارة، مثلاً، إلى أن سيطرة الجيش الإسرائيلي على مناطق دون أخرى في لبنان ليس ذا جدوى عملياتية ربطاً بالانتشار العرضي والعمقي لمنظومة المقاومة الصاروخية، بحسب ما يقول خبراء إسرائيليون، الأمر الذي يعني أن الجبهة الداخلية ستبقى عرضة للنيران في كل الأحوال). استبعاد الحسم، يعني استطالة المواجهة، التي تعني بدورها مراكمة الخسائر المادية والمعنوية الإسرائيلية وازدياد حجم الضغط المتولد عن النزف في الجبهتين الداخلية والأمامية. لحل هذه المعضلة، لجأت إسرائيل إلى توسيع دائرة تهديداتها. فإذا كان الهجوم الناري والبري لا يكفل سلب المقاومة قدراتها القتالية، وإذا كانت إرادة القتال لديها، ربطاً بطبيعتها العقائدية، عصية على الانكسار، فإن الحل يكمن في التأثير على هذه الإرادة من خلال استدخال عناصر أخرى في دائرة الاستهداف التدميري، هي البيئة المدنية للمقاومة (إقرأ: عقيدة الضاحية) ومتعلقات الدولة اللبنانية من جيش وبنية تحتية وخدماتية (إقرأ: استراتيجية الصدمة والترويع بنسختيها اليوغوسلافية والعراقية).
يمكن الجزم بأن تلويح تل أبيب المتكرر بالاستهداف التدميري لبيئة المقاومة المدنية ومتعلقات الدولة اللبنانية في الحرب المقبلة مع لبنان هو، بالضبط، الإعلان الإسرائيلي الأكثر تعبيراً عن الإقرار بالعجز عن إمكان حسم الحرب عسكرياً مع حزب الله، الأمر الذي يستدعي اعتماد روافع أخرى لزيادة الضغط عليه من أجل تقصير أمد الحرب.
لكن المعضلة الإسرائيلية، بالرغم من ذلك، تبقى قائمة. فأحد أهم مقومات النجاح في نموذج الحرب الأطلسية على يوغوسلافيا (1999) والأميركية على العراق (2003) كان يكمن في بعد الجبهات الداخلية للطرف المهاجِم عن ساحة المعركة، مما أوجد حالة عدم تكافؤ بالنسبة إلى الطرف الآخر: جهوده الدفاعية انحصرت على استهداف الآلة العسكرية للمهاجِم، فيما الأخير يستبيح كل البنى التحتية للدولة التي يهاجمها قصفاً وتدميراً.
في حالة المواجهة بين إسرائيل وحزب الله، لن يكون هذا المشهد هو السائد. إذ يمكن ببداهة الاستنتاج بأن وجود الجبهة الإسرائيلية الداخلية ضمن القوس الناري للمقاومة سيمكّنها من إنتاج درجة معتبرة من التكافؤ على مستوى روافع الضغط ذات الصلة بالاستهدافات النارية غير العسكرية. مؤدى ذلك سيكون المراوحة في لعبة عض أصابع موجعة تتقن المقاومة فنّها، بعيداً عن أي أمل إسرائيلي بالحسم، أو حتى بالنصر.
يُنقل عن دافيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل، مقولة مفادها بأن الوضع الاستراتيجي لإسرائيل لا يتحمل هزيمة عسكرية واحدة. لاحقاً، أعاد منظّرون عسكريون إسرائيليون، منهم يسرائيل طال، صياغة هذه المقولة بما يتلاءم مع مقومات الوجود الإسرائيلي. رأى هؤلاء أن الوضع الاستراتيجي لإسرائيل ليس فقط لا يتحمل هزيمة عسكرية واحدة، بل إنه لا يتحمل أقل من تحقيق نصر حاسم في أية حرب.
إذا صحت هذه المقولة، فإن الوضع الاستراتيجي لإسرائيل سيكون على موعد مصيري مع القدر في الحرب المقبلة مع حزب الله.




تحدثت إسرائيل كثيراً في العلن عن حرب 2006 بلغة الأرقام، لكن أحداً فيها لم يرغب على ما يبدو ــــ لأسباب واضحة تتصل بحساسية الرأي العام الإسرائيلية حيال هكذا نوع من المقارنات ــــ أن يتوقف عند نسبة القتلى بين طرفي المواجهة بوصفها أحد أبرز أوجه الانتكاسة الإسرائيلية في الحرب. أقر الجيش الإسرائيلي بمقتل 122 جندياً في تلك الحرب، فيما أعلنت السلطات المدنية مقتل 44 مستوطناً. في المقابل، لم تعلن المقاومة العدد الإجمالي لشهدائها، وإن كان شائعاً في أوساطها أن عددهم يراوح عند حدود 250 شهيداً، فيما بلغ عدد الشهداء المدنيين بحسب الأرقام الرسمية نحو 900 شهيد. يعني ذلك أن النسبة بين الجانبين على الصعيد العسكري تبلغ واحداً إلى اثنين تقريباً، وهي نسبة كارثية، معنوياً ومادياً، بالنسبة إلى الجيش الأقوى في المنطقة، علماً أن تاريخ الصراع العربي ــــ الإسرائيلي لم يُسجل مثلها أو ما يدانيها. حتى لو جرى احتساب النسبة الإجمالية بما يشمل الخسائر المدنية، فإن النسبة ستكون 1:7، وهي نسبة قريبة من حرب أكتوبر 73 التي هاجمت فيها ثلاثة جيوش عربية إسرائيل بشكل مباغت على جبهتين. في ما يلي جدول يسلط الضوء على الإحصاءات التاريخية ذات الصلة لتوضيح الفكرة. إشارة إلى أن مصادر المعطيات الواردة جرت مقاطعتها بين مصادر إسرائيلية وأجنبية بالاستناد إلى ويكيبيديا، وهي تشمل القتلى والشهداء المدنيين في الجانبين.

للصورة المكبرة انقر هنا