الغائب شجرة غريبة يجب أن تُسقى كل يوم، على امتداد الأشهر والفصول. وإلا يبست، وامّحى طيف صاحبها، وابتعدت قرينته حتى التلاشي. الموت الحقيقي هو النسيان. لهذا تنفع طقوس الاستعادة: إنّها محطّة للتذكّر، ومناسبة لجردات الحساب، لقياس الوقت الذي يفصلنا عن «الزمن السعيد»، عن نقطة محدّدة، تبدو لنا مرجعيّة وتأسيسيّة.
وها نحن نطرح السؤال البديهي والمكرّر: ماذا بقي «اليوم» من الغائب؟ في ذكراه العاشرة، نتلمّس جوزف سماحة فعلاً عبر ذواتنا، نبحث عنه في البصمات الفريدة التي تركها على وعينا الفردي والجماعي. لكن هذا الشخص المركّب، صاحب الخطاب المتعدد المستويات، هذا الطيف الساخر، السريع الإفلات، يكذب من يدّعي أنّه يحتفظ به كاملاً. إن إحياء الذاكرة بالمقابل تمرين صعب واعتباطي، في منتهى الهشاشة والخطورة، إذا لم يوقعك في أسر الماضي، فقد يأخذك إلى الشك والخيبة.
جوزف سماحة، كشخص، لا يزال حاضراً بقوّة بيننا. ضحكته الماكرة تطالعك عندما تدخل إلى مكاتب «الأخبار»، وتلاحقك وأنت تتجوّل في الممر الطويل، ذهاباً باتجاه الإدارة ورئاسة التحرير وقاعة الاجتماعات والكافتيريا، وإياباً في اتجاه أقسام التحرير والتصحيح والتنفيذ. وجوزف الفكرة ــ أي العلاقة الجدليّة بالعالم، وتشخيص الصراع، جوزف النهج والموقف والخيارات الراديكاليّة، المخزون النظري والتجربة الميدانيّة الطويلة التي تختصر عصراً كاملاً… هذا الجوزف ما زال ماثلاً في كل الخناقات والنقاشات الدائرة ضمن أسرة تحرير «الأخبار». اتركْ للغة المذهبيّة أن تتسلل إلى عنوان أو مقالة، من باب التعاطي مع الأمر الواقع، فتأتيك في اليوم التالي الاحتجاجات الصاخبة: هل هذه جريدة سماحة؟ قصّرْ يوماً واحداً على جبهة المواطنة والعدالة والتقدم الاجتماعي… ارتكِبْ تقصيراً مهنيّاً أو سياسيّاً… تقاعسْ عن نقد الهيمنة الرأسماليّة، والنظام الطائفي، هادِنْ لحظة عن طريق السهو، أو تأخّر في رفع لواء المقاومة، والاسترشاد ببوصلة فلسطين… فتجتاحك الانتقادات الهادرة: ماذا فعلتم بالأمانة؟ ماذا حلّ بتركة جوزف سماحة؟
اتفقنا في النهاية ليس على تحييد «المرشد»، بل على عدم الاحتكام إليه إلا في الحالات القصوى، مخافة أن يعيد كلّ منّا تركيب «جوزيفه»، من موقع ذاتي أو أيديولوجي. نعم هو مؤسس «الأخبار»، وهو ــ أبعد من حدودها ــ أستاذ الكثيرين بيننا، بشكل مباشر أو غير مباشر. لكن الصحف، كالأفراد، أجساد حيّة تتحرّك وتتغيّر وتتفاعل مع الواقع والمرحلة، مع الظروف والتحوّلات. والتحدّي هو أن نستمرّ، من دون أن يغلبنا الواقع. بعض من كان في زمن آخر رفيقاً وصديقاً وتلميذاً نجيباً لسماحة، قد تجده اليوم في الخندق المواجه، مع كل التبريرات الأيديولوجيّة اللازمة، فتهزّ بكتفيك وتواصل القتال. كيف تحدّد الخندق «الآخر»؟ بالنسبة إلى الثوابت التي بنى عليها جوزف سماحة فلسفته وخطابه، وكانت من صلب العقد التأسيسي لـ«الأخبار». وهذه الثوابت واضحة وحاسمة ولا تحمل التباساً. لكن، ربّما لأن جوزف الجدَلي الذي آمن بالحوار وبالاختلاف، بسلطة العقل والمنطق والإقناع، يبدو صديقاً للجميع، قادراً على الاتساع للتناقضات… فإن هناك من يخيّل إليه، مع كل حقبة جديدة، أنّ بوسعه مصادرة الرجل، أو اختطاف هالته، أو تحريف فكره وتاريخه.
عشر سنوات تبدو عمراً، ومع ذلك فقد عبرت بلمحة. لقد انقلب العالم رأساً على عقب، تحوّلت أحلام التغيير والديموقراطيّة في العالم العربي إلى كابوس عظيم يهدد مجتمعاتنا بالتفتت، ويحاصرنا بطاعون الانحطاط والتكفير، ويزيد حكامنا استبداداً وفساداً وتبعيّة للغرب وتواطؤاً مع إسرائيل. لقد ازداد الصراع تعقيداً، وصارت الاختيارات مؤلمة أحياناً. لكنّنا لم ننسَ المقولة الثابتة التي لازمت جوزف سماحة على امتداد مساره: عليك في كلّ لحظة أن تحدد موقعك من الصراع الدائر. هذا ما فعلناه ونفعله اليوم، في قلب الإعصار… ليس من السهل أن ترفع لواء التقدّم والحريّة والمقاومة في هذا الزمن. ليس من السهل أن تحمي، من الفخاخ القاتلة، مشروعاً مهنيّاً وراديكالياً كـ«الأخبار». ليس من السهل أن تتعايش مع تناقضات الواقع، وتخوض في وحوله، ولا تترك له أن يغلبك… أو يجرّدك من أحلامك!
ترى، ماذا بإمكان «الأب المؤسس» أن يقول، لو قدّر له أن يعود لمحاسبتنا؟ لعلّنا اليوم بحاجة إلى هذه المواجهة، لمرّة أخيرة، قبل أن نطلق سراحه.