مصائر لغةأضحك ممّن يقول لي إنّ مسيحيّتي ستظلّ، مهما كتبتُ بالعربيّة، تسقطني إلى الهامش في مراتب الأدباء العرب. فالعربيّة لغة المسلمين بمعمودية القرآن، وأمّا مسيحيّوها فضيوف. كرامٌ ربّما، ولكن ضيوف، أشبه بأدباء المستعمرات السابقة في اللغة الفرنسيّة: ليوبولد سنغور أو جورج شحادة أو إيمي سيزير أو الطاهر بن جلّون أو أمين معلوف، وسواهم من أدباء كندا الفرنكوفونيّين، سيظلّون في الصفحات الرماديّة من كتاب الأدب الفرنسي. إنّهم «الملحق».
أضحك لأنّ التشخيص غير صحيح فهو قد يكون صحيحاً بالمقاربة الدينيّة، ولكنّي أضحك لأنّهم يتكلّمون عن التأثير في المجتمع الإسلامي وأنا لا يهمّني إلّا علاقتي باللغة. ولا ألتفتُ إلى الكُتّاب إلّا مَن كان منهم يحسّ بها وتعيش فيه. عندما أطالع أدباء العرب المسلمين (بمَن فيهم الملحدون) لا أجد أنّهم ألصق منّي بروح هذه اللغة. قد يكون روح الدين الإسلامي ألصق بهم لكنّ هذا لا يعطيهم دالّة ولا جائزة. ولا التبحّر في التاريخ الديني.
لا يهمّني أين يضعني التصنيف الإسلامي في المراتب الأدبيّة العربيّة ولا التصنيف المسيحي أو اليهودي لو كان لهما كلمة في هذا الشأن. ما أعرفه هو المفتاح الذي قدّمته لي علاقتي باللغة العربيّة والذي يعتقني من كلّ سجن حتّى لو كان سجنها. يصدف للمرء أن يأسف لكونه يكتب بلغةٍ «ميتة» لا يقرأها معظم أبنائها. غربةٌ مختارة، غربةٌ باتت وطناً بديلاً حتّى من نفسها. صنعنا لغةً من تلك اللغة، ندّعي دون مبالغة أنّها هي الابنة الحقيقيّة لتلك اللغة، وأنّ تلك الأم لا تريد أن يفرّقوا بينها وبين هذه الابنة.
عربيةٌ ما محنّطة أراد بعضهم لها أن تكون سجن العرب وقبرهم. عقولٌ كثيرة قاومت هذا الاستبداد، ونستطيع الآن القول إنّها انتصرت عليه.
قد تصبح العربيّة بفعل تطوّرات مختلفة لغة حيّة عالمية، ولكنّها قبل ذلك أصبحت لغة حيّة للمتداولين بها. لقد أوصلها الأدب الحديث شعراً ونثراً إلى هذا الهواء المنعش، وأخرجها عشّاق الكتابة وأحرار الفكر من الخوف.
وأصبح الانتساب إلى العربيّة انتساباً إلى إحدى لغات الصراع من أجل الحريّة تمهيداً لأن تصبح واحدةً من لغات الحريّة.





«شريعة المفاسد»
خلافاً للمتشائمين، أنا ممَّن يرون أنّ مسيرة العقل في الإسلام وحياله قد بدأت، أو الأصحّ قد استؤنفت وبزخم أقوى ممّا كانت عليه في أوج النهضة.
الأمثلة كثيرة على صحّة هذا التفاؤل، من تونس إلى مصر ومن لبنان (نعم من لبنان) إلى سوريا والعراق وحتّى السعوديّة.
آخر مَثَل كتابٌ صدر قبل أيّام للأستاذ معمّر عطوي بعنوان: «شريعة المفاسد _ الاجتهاد الغائب عن فضاء النصّ الديني» (دار النهضة العربيّة) حيث ينهال الكاتب على المقدّس انتقاداً بالجملة والمفرّق ويعتبر جميع طقوس الرجعة والتكفير «إساءة إلى الله»، ويقرّع الشيخ يوسف القرضاوي لأنّه نفى علمه بوجود فتوى لشيخ الأزهر الراحل محمود الشلتوت (1893 _ 1963) تجيز للمسلمين السنّة ممارسة طقوسهم الدينيّة وشعائرهم وفق أحكام المذهب الإثني عشري إلى جانب المذاهب الأربعة لأهل السنّة والجماعة (الشافعي والحنبلي والمالكي والحنفي). ويختم بدعوة المسلمين إلى الاقتداء بالاتحاد الأوروبي الذي رفض تضمين دستوره بنداً ينصّ على كون المسيحيّة هي في صلب جذور دول الاتحاد. «باسم المقدّس تحتشد مئات الآلاف في مسيرات للدفاع عن «المشاعر» في فلسطين والعراق، متناسين أنّ البشر أقدس من الحجر ودماء الناس أغلى كثيراً من رخام المقامات والمساجد». مع وجوب التحفّظ عن كلمة «يتناسون» والتوقّف للتساؤل هل يتناسون أنّ البشر أغلى أم هم مقتنعون بأنّ الرخام أغلى من الأرواح؟
ويطالب الكاتب بتحرير نظام الحياة من جمود العقيدة وبالكفّ عن «تسخيف قيمة الله حين يضع الفقهاء معايير للبشر حول كيفيّة مخاطبتهم الله».
كتاب يشرح الصدر، كما يعزّز الأمل بمستقبل الكتابة التي تتصدّى للمحنّط.





أيّوب
تخيّل شخصاً متأرقاً مثل أيّوب «على امتداد الليل لا يشبع بلبالاً إلى الفجر». وأصغِ إلى أيوب في التوراة يردّ على أصدقائه:
ـ «الساخرون منّي هم أصدقائي/ ولكن إلى الله تفيض عيناي./ فليدافع هو عن رَجُل في صراع مع الله/ كما يدافع ابنُ بَشَر عن صديقه (...)/ كلّت عيني من الكآبة/ وصارت أعضائي كلّها ظلّاً (...)/ هَبوني في الواقع قد ضَلَلْتُ/ فضلالي يعنيني وحدي/ وأنتم إذا كنتم تستكبرون عليّ وتوبّخونني بعاري/ فاعلموا أنّ الله هو الذي آذاني/ ولفّ عليّ شبكته./ ها إنّي أصرخ على العنف/ فلا أُجاب، وأستغيثُ وليس من قضاء (...)/ ارحموني ارحموني أنتم يا أصدقائي/ فإنّ يد الله قد مسّتني./ لمَ تطاردونني مثل الله/ ولا تشبعون من لحمي؟ (...)/ ألَعَلَّ شكوايَ من إنسان؟/ وإلّا فلماذا لا أكون قصير البال؟/ التفتوا إليّ واندهشوا/ واجعلوا أيديكم على أفواهكم (...)/ لماذا يحيا الأشرار/ ويشيخون ويعظم اقتدارهم؟ (...) بيوتهم آمنةٌ من الخوف/ وعصا الله لا تعلوهم./ ثورهم يُلْقِحُ ولا يخطئ/ وبقرتهم تلد ولا تُسقِط./ يسرّحون صبيانهم كالغنم/ وأطفالهم يرقصون (...)/ أسيرُ شرقاً فلا يوجد/ وغرباً فلا أبصره./ يعمل في الشمال فلا أدركه/ ويستتر في الجنوب فلا أراه./ أمّا هو فيَعْلَم سبيلي».



أودّ لو أبكي
أودّ لو أبكي من الأحداث.
من الضحالة من النفاق.
أودّ لو أبكي من الأحداث. حيثما كان. كدنا نبتهج لأنّ العالم بات، كما قيل، قرية واحدة. ليته لم يصر. ليت وسائط الإعلام لم تتطوّر فلا نعرف ولا نرى المجازر أينما كان والدم إلى الركب في سوريا والعراق ولست أدري أين في كلّ مكان.
والأمبراطوريّات المستقلّة، كما سمّاها مارسيل غانم، في باب التبانة وبعل محسن والضاحية الجنوبيّة والطريق الجديدة وعرسال والقاع ومزارع القاع ووطى المصيطبة وتلك القرية المشرئبّة التي يرفض أهلها هدم الأبنية المخالفة.
أودّ لو أبكي وأخجل من عينَيّ.
ما الذي جعلنا ننحلّ إلى هذا الدرك؟
ما الذي هلهل العالم والبشر؟
أهي عدوى انحلال باراك أوباما أم طلائع العولمة تبدأ عاطلة ثم تتحسّن؟
ليته كان هناك قارعة طريق عظيمة تشرف على الجماعة فأذرف دمعي عليهم كدلوٍ ينكبّ على الناس أجمعين، السائرين كالغنم إلى أعمالهم واللاهثين نحو الشاشة يتفرّجون عبرها على انقراضهم.
«ليالٍ بلا نوم» يجب أن يصبح عنوان البشريّة.
سئمتُ عرعرة الحافلات وزمجرة الدراجات الناريّة، والسائقين المستعجلين الذين يدهسون السريلنكيّات والحبشيّات على الطرقات لأنّهم لم يميّزوهنّ من الليل.
سئمتُ تأكيدات المسؤولين أنّه لولا سهر الأجهزة لما بقي لبنان. وهل لبنان طيّارة ورق حتّى نهلع عليها من الهواء؟
سئمت رؤية الشاطئ ملوّثاً بالمجارير أو المجارير ملوّثة بالشاطئ.
سئمت شرب مائنا وأنا لا أدري أيّ مكروبٌ أشرب.
سئمت التطاحن بتسابق السيارات.
سئمت الليل.
سئمت جسدي.
سئمت كتبي.
وطقوسي جميعاً وسأمي.
والماضي والحاضر وأخاف المستقبل.
وأودّ لو أبكي وأعجز عن البكاء.
وأودّ لو أهرب وأعجز عن الهرب.