هنا، على رأسِ واحدةٍ مِن هذه التلالِ الغالية، وُلِدتُ. أو ربّما هناكَ، في واحدٍ مِن بُطونِ تلكَ الأوديةِ السعيدةِ،
أَسقطتُ رأسَ نفسي، وَوُلِدت.
كانَ ذلكَ (حسبَما... يَستحيلُ عليّ التَّـذَكُّرُ) في صبيحةٍ ما، أو عشيّةٍ ما، أو سحابةٍ قمريّةٍ ما، في يومٍ ما مِن شهرٍ ما مِن (وهذا ما يَسهلُ تَخمينُه) صيفِ عامٍ عتيقٍ ما.
ما أذكرُه (ما لا يُستطاعُ نسيانُه) أنَّ كلمةَ «صباحُ الخير» كانت، كطلقاتِ الرُّماةِ الـمُبَذِّرين، تَـتَـدَفّقُ مِن أفواهِ الناسِ ومن حدقاتِ أعيُنِهم وقلوبهم.
الجارُ للجارِ: صباحُ الخير!
عابرُ السبيلِ لعابرِ السبيلِ: صباحُ الخير!
والغريبُ للغريب (الغريبِ الذي لا يَصِحُّ أنْ يكونَ غريباً): صباحُ الخير!
البقرةُ لشقيقتِها، والكلبُ لصاحبهِ، والمعزاةُ، والنعجةُ، والجحشُ، والقُبّرةُ، والثعالبُ، والدِّيَكةُ (الدِّيَكةُ الـمُترَعةُ حناجرُها بالصباحِ في كلّ حين): صباحُ الخير!...
بل وكأنّ الهواءَ القديمَ نفسَهُ (هواءَ تلكَ التلالِ والأودية) كان هواءَ «صباحُ الخير!...».
... ... ... ...
الآنَ (يا لَـ.. الآن!) وأنا لا أزالُ هنا، على رأسِ التلّةِ ذاتِها، في بطنِ الوادي العزيزِ ذاتِه،
الآنَ (وقد صارت التلالُ أغلى، والأوديةُ أجملَ وأسعد)
أتَسَكّعُ في ما لا أزالُ أحسبُهُ زواريبَ الأزمنةِ العتيقة؛ تائهاً ووحيداً كمن يَتسكّعُ في باديةِ قمرٍ مَضروبٍ بصاعقة.
أتَلَـفَّتُ مُستَعطفاً ناحيةَ الجدرانِ والشبابيكِ والأسيِجةِ والحقولِ وقطعانِ الدخانِ والغيم، وأنتظر.
أنتظرُ، مثلما انتظرَ «أليعازر» نَدهَةَ مسيحِهِ الـمُحْـيِـيَـةَ، سماعَ نَدهَةِ الحياة.
أنتظرُ حالِماً، كغرباءِ تلك الأزمنةِ وعابري سُبُلِها الـمُترَفين، وأشتهي (أشتهي على غيرِ أمل) أنْ أسمعَ الرنّةَ الكريمةَ الغاليةَ لِـ «صباحُ الخير».
.. .. .. ..
يا أيّتها الحيطانُ الناجية! أيتها الحجارةُ الحنونَـةُ الصامدة! أيتها الأشجار والبساتينُ والأسيجةُ والدروبُ والسماواتُ والغيومُ... الغيومُ التي ما عادت شبيهةً بالغيوم:
لكِ أنتِ، لكِ وحدَكِ وجميعَكِ: «صباحُ الخير!...».