بعد أسابيع من مواجهته مرض السرطان الذي أصابه بشكل مفاجئ، رحل الكاتب والمترجم والناشر والمثقّف المشتبك سماح إدريس. أحد أبرز وجوه بيروت الثقافية، تسلّم منصب رئيس تحرير مجلّة «الآداب» الورقية منذ سنة 1992، المجّلة العريقة التي أسّسها والده الراحل الكاتب والمترجم سهيل إدريس سنة 1953، كأشهر المجلّات الأدبية والثقافيّة في بيروت. استمرّ سماح في مهمة رئاسة تحريرها، بعد تحوّلها إلى مجلّة إلكترونية منذ سنة 2012. سماح الذي نال الدكتوراه في اختصاص دراسات الشرق الأوسط من جامعة كولومبيا الأميركيّة، وماجيستير الأدب العربي من الجامعة الأميركيّة في بيروت، بقي التزامه السياسي حاضراً في صلب ممارسته الثقافية ككاتب وناشر وناشط، أكان في عمله في المجلّة أم في «حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان» التي يعدّ أبرز مؤسّسيها عقب مجازر جنين سنة 2002، كجزء من حملة مقاطعة «إسرائيل» حول العالم.
(هيثم الموسوي)

حتى تاريخ كلمته الأخيرة (بعنوان: «المسار البديل»: الرمز، البديل، الحاضنة») التي ألقاها في مؤتمر «المسار الفلسطيني البديل» الذي أقيم في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 الفائت، لم يبدّل إدريس شعاره الثابت، وهو «إذا تخلّينا عن فلسطين تخلّينا عن أنفسِنا». شعار تصدّى من خلاله، مع الحملة، لكلّ أشكال التطبيع الثقافي والفني والأكاديمي والرياضي مع الاحتلال الإسرائيلي في لبنان والعالم.
لم يغب الهمّ السياسي أيضاً عن مجال أدب الأطفال والناشئة الذي خاضه إدريس في عدد من الكتب المؤلّفات، بل كان دافعاً أساسيّاً، تحدّث عنه مراراً. فالكتابة للأطفال باللغة العربية، وصفها كـ «لغتي السياسيّة»، التي تشكّل «أحد العناصر الأساسيّة لعقيدتي القومية العربية واليسارية». كتابة كانت تحديّاً سياسياً آخر في مسيرته؛ خصوصاً هاجسه، بتبسيط الفصحى للأطفال، وهو هاجس يقبع في صميم السياسة الديمقراطيّة بما فيها من إشراك فئتي الأطفال والناشئة في صناعة القرار. وقد نتجت عن هذه التجربة أربع روايات للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال من بينها «تحت السرير»، و«حين قرّر أبي»، و«الملجأ»، و«النصّاب»، و«عالم يسع الجميع»، و«خلف الأبواب المقفلة»، و«فلافل النازحين».
نشط إدريس في الحياة الثقافيّة في بيروت، وصار أحد أبرز وجوهها، كناشط في مجالات عدّة أبرزها دعم القضية الفلسطينية، ونشر الفكر العلماني، وتجديد الفكر القومي العربي. وفي هذا السياق، كتب مؤلّفين في النقد الأدبي، هما «رئيف خوري وتراث العرب» (1986) حول الناقد اللبناني رئيف خوري ومنهجه الفريد في النقد، و«المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصرية» (1992) الذي يبحث في علاقة المثقّف العربي بسلطات بلاده الرسميّة. تضاف إليهما مئات المقالات المنشورة في السياسة، والأدب، واللغة، وترجمات لعشرات المقالات، ولأربعة كتب، أبرزها «صناعة الهولولكوست – تأمّلات في استغلال المعاناة اليهوديّة» لنورمان فنكلستين. كما انكبّ في السنوات الأخيرة على العمل والمساهمة في تأليف معجم «المنهل العربي الكبير»، مشاركاً في ذلك جهود والده الدكتور سهيل إدريس، بمشاركة العلّامة صبحي الصالح، الذي سيكون لدى صدوره عن «دار الآداب» أكبر وأشمل معجم عربي - عربي حديث (ثلاثة أجزاء).

رغم صعوبة وضعه الصحّي في الأيّام الأخيرة، واصل إدريس المواجهة بإصرار وشجاعة. ربّما لم يكن ذلك خياراً، بقدر ما كان قدراً كما كتب في افتتاحية أحد أعداد شهر تموز (يوليو) من مجلة «الآداب»، مشدّداً على الاستمرار في العمل والنشر والكتابة في ظلّ الأزمة الإقتصاديّة والاجتماعيّة التي تشهدها البلاد: «ومع ذلك، فنحن لا نملك مهنةً غيرَ الكتابة والنشر المستقلّيْن. وسنواصل هذه المهنة، مهما صعبت الظروف، ومهما تعثّرْنا أو تأخّرْنا أو كبوْنا. وسنكون إلى جانب كلِّ من يعمل، بكدّ وتفانٍ وحبّ، على الخلاص من سارقي أحلام شعبنا في الحياة الكريمة الحرّة.».