ــ 1 ــ
مهما كانت آراء اللبنانيين مختلفة أو مؤتَلِفة، في كلّ ما يتعلّق بلبنان، فإنّ التّجربة التّاريخيّة الحيّة تؤكِّد على أنّ الماضيَ الذي صُنِعَ لأبنائه، لم يَعُدْ قادِراً على أن يحتضِنَ المستقبل الذي يُصنَع لهم. وعليهم إذاً، أن يبادروا هم بأنفسهم، ويعيدوا بناءه بعقولهم وقلوبهم وإرادتهم، وفي استقلالٍ كامِلٍ وحريَّةٍ كامِلة.
هكذا يبتكرون صورةً جديدةً لهذا المعنى الفريد، على المستوى الكونيّ : لبنان.
ما تكون هذه الصّورة؟

ــ 2 ــ

جميعُ الحُلول التي قُدِّمَت للبنان في المُشكِلات التي واجَهَها منذ نشوئه حتّى الآن، جاءت في أفُقِ الماضي، وتِبعاً لمَنطِقِه. ولقد أكَّدت التّجارب بمختلف أنواعها أنّها حلولٌ هي نفسُها مشكلات. ذلك أنّها قامت على النَّظَر إلى لبنان كأنَّه كتلةٌ صَمّاء، خارِجَ الزَّمَن وانقلاباته الحضاريّة، وخارجَ التّاريخ. وكأنّه مجرّدُ بقعةٍ جغرافيّةٍ يسكنها بشرٌ ليسوا في حساب أصحاب الحلول أكثرَ من أرقامٍ وأعدادٍ وانتماءاتٍ مَذهَبيّة، وولاءاتٍ خارجيّة.

ــ 3 ــ

لا يتمّ ابتكارُ هذه الصّورة إلاّ في أفق بِناءِ مستقبلٍ مُشتَرَك. ولا ينفتِحُ هذا الأفق إلاّ بوعيٍ جديدٍ يُؤسِّسُ لعقدٍ اجتماعيٍّ جديد، قوامُهُ:
أ ــ دولة مَدَنيّة، بمُؤسَّساتٍ مدنيّة، واجباتٍ وحقوقاً وحرّيّات،
ب ــ مجتمع تَعَدُّديّ، يكون الدّينُ فيه شخصيّاً، حُرّاً، لا يُلْزِمُ إلاّ صاحِبَه، في علاقته الكيانيّة الحميمة مع الخالِق. ويكون هذا حقّاً لكلّ فَرْدٍ، يجبُ صَوْنُه وحِمايتُه.

ــ 4 ــ

لبنان بين دُوَلِ العالَم ظاهرةٌ فريدة ــ بتاريخ الإنسان فيه، منذ الأبجديّة ، على الأخصّ، وبجغرافيته الحضارية المُتَوَسّطيّة. فهو بطبيعة أرضِهِ، وتَعَدُّدِيّته، وتنوّعه، وطموحاته، وحضوره البشريّ الخلاّق، على مستوى الكون، جديرٌ بأن يكون نَموذَجاً كَوْنِيّاً.

ــ 5 ــ

قَرْنٌ كامِلٌ عمرُ لبنان، وهذا يكفي حتّى بالدّلالةِ الزّمَنيّة لكي يُدرِكَ اللبنانيّون أنّ الطّائفيّة السياسيّة لا تليق بلبنان، خصوصاً على المستَوى الإنسانيّ. المسيحيّة تتخطّى السّياسة، وجوهرُها في مَكانٍ آخر. وقراءةُ الإسلام في ضوءٍ حديث تؤكِّد بالنّسبة إليه، الأمرَ نفسه.
السّياسةُ دينيّاً، حاجِزٌ، وحّدٌّ، وتَقْليصٌ، وتَقزيم. الدّين ليس سياسة تقوم بها الأنظمة أو الأحزاب أو الجماعات. سياسة الدّين هي اللّا تسيّس. هي الوقوف إلى جانب الحقيقة والحق والعدالة، والسّهر على مصير الإنسان. الدّين سياسةُ الله الواحِدِ المُوَحِّد، وحده.
تاريخُ الغرْبِ، صديقاً أو عدُوّاً، يشهد على ذلك.
لا ينقذُ لبنان إلاّ اللبنانيّون: بَصَراً وبَصيرة.
وعليهم، إذاً، أن يعشقوا بلا حَدّ، هذا البلدَ الكريمَ العظيم.
باريس، أب/ أغسطس 2020

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا