يُعرف عن الثعابين تدويرها لمواقفها. هذا رجل لا علاقة له بالثعابين لأنّه لا يحلق ذقنه من أجل اجتماع ولا يطيلها من أجل آخر. لا يفرح أمام صورته على المرآة كما يفعل الكثير من العاملين في الفن والثقافة. يرشح ابن زبوغا (قضاء المتن) بالطيبة بالفطرة. تعلم المشي على الحب والطيبة. لا يفزع من الارتطام بالأشياء والأشكال والبشر. غير أن لا علاقة له بالتهور. لطالما قفز فوق القصاصات والجمارك والدبابات منذ الحرب الأهلية في عام ١٩٥٨. حروب تأكل العظام، إلا أنّها لم تأكل عظام أنطوان كرباج (1935). حين اعتقل في إحدى سنوات الحرب الإهلية الباردة عام 58، ما استعمل سوى الكلمات نفسها: المعتقل أنطوان كرباج. الناضح بالفطرة لم تدهمه التعاويذ. أبداً. حين دقت الطبول في رأسه، سابق الرصاص والأحداث عبر غابات المسرح. لا يعلم كثيرون أن أستاذ التاريخ أخطأ غابات التاريخ قصداً لصالح المسرح. أحكم المسرح قبضته عليه كما أحكم قبضته على المسرح. ما انتبه منير أبو دبس (1932 ـــ 2016) لطالب «محترف المسرح الحديث» (أنشئ مطلع الستينات وكان تابعاً للجنة «مهرجانات بعلبك الدولية» بإدارة منير أبو دبس) وهو يقيم بين أبيض المحترف وأسود المحترف. هذا زمن الامتحان. ما حدث عند الظهر غير ما حدث بعد الظهر. قصد أنطوان كرباج مطعم «الديك الذهبي» في شارع الحمراء، ليشرب جرّة نبيذ يقدمها المطعم مع نصف الفروج المطلوب. أراد أن يشرب ليخفف توتره. شرب وانتظر دوره في صالة مسرح «مهرجانات بعلبك»، بحيث لا يبدو قليل القوة أو الحيلة أو كثير الخجل. شاب من الذكاء بحيث وجد أن رعاية الحضور في حضرة مؤسس تجربة المسرح الثقافي في لبنان، لا تقوم إلا على ترك المساحات الهشة بقوة يمنحها نبيذ المطعم.
كلما مرّ طالب على المنصة، اقترب دور الكرباج. وكلما اقترب الدور، قلّ الهواء في رئتي الشاب الطموح الغائص في حقول قطن المسرح. لم ينس أبو دبس شأناً من شؤونه، وهو يدير الطلاب على المنصة. طلاب من أعيرة ثقيلة: ريمون جبارة، وأنطوان ولطيفة ملتقى، وميشال نبعة ورينيه الديك ومادونا غازي. عشرات الأبدان والأسماء على المنصة. صور في صندوق فرجة. ليس مهماً إحصاء القتلى يومذاك، لأنّ ثمة قتيلاً واحداً، سقط قتيل واحد اسمه أنطوان كرباج. لأنه حين نظر إلى المصائد، لم يتعثر بالجثث. وقف في الصالة كأنه يقف في باريس أو لندن بطفولة ناصعة لم يتخلَّ عنها في يوم من الأيام. غير أن موس حلاقة منير أبو دبس مرّ على ذقنه، إذ سأله عمن يكون. ما جاء يفعل بين تلاميذ المدرسة أو المحترَف؟ يروي أنطوان كرباج (لقاءات خاصة من العالم الأول) أنه اكتشف أن حضوره دروس أبو دبس حضور الحاضر الغائب. قفزٌ من الجيب إلى الجيب الآخر. حضور نكرة. حضور غير محسوب. لم يسمح لهذا الخطأ أن يمتلك الغلو على حضوره، ثم إنّه لم يواجه الموقف بوضع مكياج خفيف على الوجه. لم يسمح لخيول الأمجاد المقبلة أن تسبق خيله. هكذا، قفز وسط حرائق الروح وهو لا يرى إلا الخشبة. نظر إلى الأمام لا إلى الخلف. قدم مشهده وعبَر. مشهد اكتمال الحواس في تجربة المسرح في لبنان، لأن الافتراض الواضح هو افتراض أن لولا الخطوة هذه، لبقي المسرح أعمى، لأنّ الرجل لم يلبث أن فرض حضوره بين كبار المسرح. حضور الرجل رمّم مذاق المسرح في كتابة الرجل، دليل المسرح الأول. النكران أولاً. بعدها وقوف على البرج، لا برج الميزان ولا برج العقرب، وقوف على برج المسرح بعدما جرى تفضيله من أستاذ المسرح على طلاب المسرح. لأنّ أبا دبس وجد في ألسنة الطلاب ألسنة مشقوقة إلا لسان أنطوان كرباج. دليله إلى الأفراح مع «الملك يموت». خطوة المسرح الأولى إلى لغة لا تنكسر. خطوة مع خطوات أبرزها أنّ من رفض أن يلعب غير دور البطولة، ألبس نفسه تجربة جديدة. رفض لعب الأدوار الثانية إلى جانب البطل الطارئ الأول. دفع الرافضين إلى تلمّس دربهم الخاص بأصابع غير معقوفة بالخروج من شقوق محترف المسرح الحديث إلى حلقة المسرح اللبناني. المسرح جدران بأبواب في وقت الخلاف بين بطل الانزلاق الطازج في المسرح، وبين من اعتبره «يقرأ علينا من كتاب لا نعرفه: «إعداد الممثل» لستانسلافسكي». المسرح بلا جدران منذ لعب أنطوان كرباج أدوار البطولة في مدرسة المسرح الحديث كأنه رجل على عجلات. سكن الجميع في دواوين الشقاق. هكذا، تباهت جماعة حلقة المسرح بالقفز فوق التخمينات و«غلاظة فكر» أبو دبس إلى مكر المنافسة. كل مسرحية بمسرحية. واحدة في بعلبك وواحدة في جبيل. أو مسرحية واحدة على منصة «مهرجانات بعلبك» وعلى منصة «مهرجانات جبيل». شراسة قتال لا تلطيف العجمة، بحيث تبارز الطرفان في نص واحد على منصتين. نص واحد بجوربين. جورب صوف وجورب نايلون. وراء الغمز المتبادل بين التجربتين، خرج المسرح اللبناني من الأسباب إلى النتائج. خروج الأصدقاء من بادية الأصدقاء وبقاء الكرباج في البادية، أسهم في طلوع صاحب السمو المسرح من المجرة المعزولة إلى شاشات البلاد وشاشات العالم. تذكر يوسّع الألفة بدون أن يوسع الألم.
لعب أنطوان كرباج دوره الباهظ بخروج المسرح من مجرد تمرين إلى مسرح بخطوات كاملة. هذا أول التدوين. ثمة محطة بارزة أخرى في المسرح بعد خروج الجنون من الأنفاق إثر هزيمة عام ١٩٦٧. عندها، قفز الكرباج فوق القبور إلى المحطة الأخرى في المسرح. عدم استسهال الأعطاب إثر الهزيمة، كما فعل منير أبو دبس بعدما رفض القبول بزوبعة الهزيمة على أشكال التعبير. لم يؤلمه خزف الفصحى كما حدث مع كثيرين لأن الفصحى «تُغرِّب» على ما صرّح في الكثير من الأوقات. لم يقبل أنطوان كرباج أن تصفعه الأحداث بدون أن يثبت أقدامه، لأنه ما أراد أن تظهر قدماه كقدمي راقصة. بسط خده للعامية بدون أن يودع أستاذ الفصحى. بداية السهرة الخاصة مع ميشال نبعة في مسرحية «الدكتاتور»، بحركة سريعة لا ناعمة. امتلك الرجل القدرة على الفهم باللمس منذ هزيمة حزيران. لم يُصب بحدة الأعصاب بعدما أفرزت الهزيمة الكثير من الأسئلة القلقة. بالأخص: سؤال الهوية. كل الأعمال الأخرى أولاها أنطوان كرباج عناية الممرضات للمرضى. كل مسرحية حدث. الكرباج بطلٌ لا يعلم التعب ولا يراوح بالندم. تعلم كيف يتكلم مع الدمامل بروح المؤمن. كرباج ماكبث، كرباج أورست في «ذباب» سارتر، كرباج ملك يونسكو في «الملك يموت» وأوديب وهاملت وفاوست والمهرج في «مهرّج» الماغوط وأبو علي الأسمراني والتطريزات الكبرى على أكمام مسرحيات الأخوين رحباني. قائد روماني في مسرحية «بترا»، ولص في مسرحية «المحطة»، واليوزباشي عساف في «صيف ٨٤٠» لمنصور الرحباني. الكرباج جان فلجان «البؤساء» حين أخرج باسم نصر «البؤساء» لتلفزيون لبنان، ومفتش «لمن تغني الطيور» و«بربر آغا». الكرباج موضب المسرح والسينما والتلفزيون بالأنس وسط أملاح البلاد.
لم يصدق الرجل رصاص الحروب، لأنه لم يرد أن يقفز فوق جثمان القتيل. هذا الرجل المسالم المحشود بالصور الملونة، أدرك أن الحياة أوسع من زقاق وطائفة، هو القومي السوري الاجتماعي في الخمسينيات من القرن الماضي. الكرباج نوم الطفولة في الطفولة واستيقاظ الطفولة في الطفولة. رجل الجراحات بالعمق بلا مباضع، فتح فمه المشغول بالذهب على أنصع الأدوار بدون أن ينتابه شريط من الإقدام. نزل الرجل من الحياة إلى القصص. لم يلعب دوراً لأنه اشترى قميص الشخصية المناسب. أبداً. لأنه مناضل في المسرح، وزع الحلوى على المسرحيين بدون عطل. ثم إنه لم يحتفل يوماً بتخثر الدم في شرايين العائلة، لأنه ترك دوره الأكبر للعائلة. الكرباج على أرجوحة التكريم في «مهرجان لبنان الوطني للمسرح» (الهيئة العربية للمسرح ووزارة الثقافة). الكرباج يكرم المسرح لأنه هدهد الزوابع من أجل المسرح.
يعرف عن الثعابين أنها لا تلبث أن تغير رأيها بعد اتخاذ رأي. هذه درجة من درجات البحث. السياسيون كالثعابين، يمدحون ورق الجدران. ثم لا تلبث مواقفهم بالارتجاج، حين يجدون في الدهان فكرة لا عذر من التنصل منها. هذا كلام أكلام أو كلام جروح. لم يقع أنطوان كرباج في أفعال الثعابين.

مهرجان لبنان الوطني للمسرح ـ دورة أنطوان كرباج: حتى 10 كانون الأول (ديسمبر) ـ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/753010