باريس | عن 88 عاماً، غيّب الموت السينمائي الايطالي الكبير فيتوريو تافياني (1929 ـــ 2018)، الذي شكّل مع شقيقه باولو (يصغره بعامين) توأماً سينمائياً عدّ من أبرز أقطاب «الواقعية الجديدة» في السينما الإيطالية، بدءاً من عقد السبعينيات من القرن الماضي. تجربتهما السينمائية، التي خرجت من معطف المعلم الكبير روبيرتو روسيلّيني، اتسمت بخلطة فريدة من الشاعرية والنفس الاجتماعي ذي الخلفية اليسارية المعادية للفاشية.كان المنحى النضالي غالباً على أفلامهما الاولى. باكورتهما الروائية «رجل يجب حرقه» (أخرجاه بالاشتراك مع رفيق شبابهما فالنتينو أورسيني – 1961) ثمّن سيرة المناضل النقابي الصقلي الشهير سالفاتوري كارنيفللي، الذي اغتالته المافيا عام 1955. وبعد انفصالهما عن أورسيني، قدّما عام 1967 فيلمهما الشهير «المخربون»، الذي تنبأ بانتفاضة مايو 1968، وكرّسهما كسينمائيين طليعيين عدت أعمالهما رديفاً إيطالياً لـ «الموجة الجديدة» الفرنسية. انطباع تعمق أكثر من خلال فيلمهما الموالي «برج العقرب» (1969)، الذي حمل تأثيرات أسلوبية واضحة من «العرّاب» جان لوك غودار، وحظي بحفاوة نقدية ونجاح شعبي منقطع النظير في كامل أوروبا.
لكنّ الأخوين الايطاليين المشاكين، لم يلبثا أن غيّرا الوجهة نحو سينما تأملية ذات نفس شاعري، بداية من فيلمهما «سان ميشال كان لديه ديك» (مقتبس عن قصة لتولستوي - 1972). في العام 1974، حطّا الرحال للمرة الأولى على الكروازيت، ليفجّرا قنبلة مدوية في «أسبوعي المخرجين»، من خلال فيلمهما الجسور Allonsanfàn (تحوير ساخر لكلمات النشيد الوطني الفرنسي: allons enfants de la patrie). حمل الشريط نبرة نقدية غير مسبوقة للثورة الفرنسية، منطلقاً من ذلك لابراز وشجب التناقضات التي اتسمت بها كل الثورات اللاحقة التي شهدها موطن فيكتور هوغو، حتى نهاية القرن التاسع عشر. وقد وجه كوينتن تارنتينو تحية عرفان الى هذا الفيلم الفريد، من خلال استعادة مقاطع من موسيقاه التصويرية (تأليف أنيو موريكوني) في فيلمه المثير للجدل هو الآخر «أوغاد مجهولون» (2009).
في سنة 1977، عاد الأخوان تافياني الى «كان» ليخطفا «السعفة الذهبية» برائعتهما Padre Padrone (الأب السيد)، المقتبسة عن الرواية الأتوبيوغرافية الشهيرة لمواطنهما غافينو ليدّا، التي تروي قصة تمرده على والده المتسلط الذي منعه من التعليم، وسخّره كراعي غنم في مسقط رأسه في صقلية، فبقي أميّاً لغاية سن العشرين، قبل أن يتمرد على ذلك المصير البائس، ويعود متأخراً الى مقاعد الدراسة، ليصبح لاحقاً روائياً وشاعراً مرموقاً.
في عام 1982، قدّم الأخوان تافياني فيلم سيرة آخر، بعنوان «ليلة القديس لورنزو» (جائزة لجنة التحكيم في «كان»)، استعادا فيه ذكريات طفولتهما في مسقط رأسهما «سانت مينياتو»، في ريف توسكانا، في خضم فرحة الساعات الاولى الموالية لنهاية الحرب العالمية الثانية، واندحار كابوس الفاشية الذي خيّم على إيطاليا وعرّض عائلتهما لسلسلة طويلة من القلاقل والمطاردات، لأن والدهما كان محامياً شيوعياً شهيراً بمعاداته للفاشية. وكان الأخوان تافياني قد خصّصا لهذا الموضوع ذاته فيلماً توثيقياً قصيراً، عام 1954، بعنوان «سانت مينياتو، تموز 44».
بعد تجربة هوليوودية يتيمة، من خلال «صباح الخير يا بابل» (1987)، الذي عدّ أقرب أعمالهما الى السينما التجارية، عاد الأخوان تافياني إلى أحضان السينما التأملية الحميمة، التي اتخذت في الفترة المتأخرة من مسارهما المخضرم، منحى فلسفياً وتحليلياً نفسياً. وقد برز ذلك بالأخص في الأفلام التي اقتبساها من الكلاسيكيات الأدبية: بيرانديللو في «كاوس» (1984) و«كاوس 2» (1996)، تولستوي في «الشمس ليلاً» (1990)، غوته في «الانتماءات الاختيارية» (1996)، وشكسبير في «قيصر يجب أن يموت» (الدب الذهبي في مهرجان برلين - 2012).
بعد انقطاع دام خمسة أعوام، عاد الأخوان تافياني، وقدَّما في العام الماضي، عملاً أخيراً بعنوان «قضية شخصية» غرفا فيه مجدداً من الروائع الأدبية، إذ أنهما اقتبسا قصته من رواية شهيرة تحمل العنوان ذاته للروائي الايطالي بيبي فونيغليو (1922 – 1963).
برحيل فيتوريو تافياني، يسدل الستار على تجربة ثنائي فريد في تاريخ السينما، لا تعادلها سوى تجربة الأخوين داردين في بلجيكا. فقد كانت فيتوريو وشقيقه باولو يشتركان في كل خطوة من خطوات انجاز أعمالهما، من تأليف السيناريو حتى آخر اللمسات الإخراجية والإنتاجية، بحيث يصعب تحديد الدور الذي يلعبه كل واحد منهما في هذه التجارب الإبداعية المنجزة.
هذا الأمر يخالف باقي تجارب «الشراكة» السينمائية، كتجربة الأخوين جويل وإيثان كوين، اللذين يتولى كل واحد منهما مهمات محددة. إذ أنهما يكتبان سيناريوهات أفلامهما معاً، ثم يتولى جويل الإخراج، بينما يكتفي إيثان بالمهام الإنتاجية. أما في تجربة الأخوين تافياني، فيصعب الفصل بين ما يقوم به فيتوريو وما يقوم به باولو. وقد كان يحلو لفيتوريو القول، بروح الفكاهة المعروفة عنه: «أنا وباولو مثل القهوة بالحليب: تعال أنت وحدّد أين تنتهي القهوة، وأين يبدأ الحليب!».