مع رحيله في منزله النيويوركي قبل يومين، اختتم إدوارد ألبي (1928 ــ 2016) آخر فصول المسرح الأميركي القاتم لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي أهدى لنا جي. دي سالينجر وجاك كيرواك وتنيسي ويليامز. أولئك الذين «طُردوا من الأكاديميات لجنونهم ولنشرهم أناشيد فاحشة على نوافذ الجمجمة» على غرار الأدمغة المسحوقة في «عواء» (1955) ألن غينسبرغ. أناشيد شوّهت بجسارة الضمير الأخلاقي للحلم الأميركي من خلال العنف والرعب وإدمان المخدرات، والجنس... تابوهات القيم النموذجية للعائلة والتعليم والصحة التي راجت على وقع موسيقى باص «مستر سوفتي» لبيع الآيس كريم في أميركا الخمسينيات. في أكثر من 30 مسرحية أنجزها كسجلّ فائض عن كوابيس الإنسان الحديث ومآزقه في التجربة الأميركية، لم يكبح صاحب «وسام إدوارد ماكدول للفنون» (2013) ساديته في تعذيب أبطاله. جيري وبيتر وجورج ومارثا وميس أليس وجولين هم في النهاية كائنات معزولة وخائبة، بعدما خسروا أوهامهم، آخر الفسحات المطمئنة وسط أثاث منازلهم الفخمة. وإذا كانت هناك مهمة قد تكفّل بها ألبي طوال عمله، فستكون محاربة وهم العيش الصاخب، الذي يتحول إلى مادة وجودية تسائل الحياة والموت في مسرحياته. وبرغم أن أميركا لازمت أعماله، فإنها لم تخل من تأثيرات المسرحيين الأوروبيين كيوجين يونيسكو وصاموئيل بيكيت وهارولد بينتر، الذين كان يحلو له أحياناً أن يقول إنه واحد منهم. فرضية لا نعرف مدى صحتها في الحقيقة، إذ إنه لم يتعرف إلى والديه الحقيقيين اللذين تخليا عنه منذ ولادته. كبر إدوارد مع رجل الأعمال الثري ريد ألبي وزوجته فرانسيس اللذين «لم يشعر تجاههما يوماً بأي إحساس». بعد سلسلة طرد طويلة من المدارس الخاصة التي كان يتكفل بقسطها والده بالتبني، طرد أخيراً من «ترينيتي كوليدج» عام 1947، بسبب مشاكسته، وتخليه عن الصلاة. هكذا راحت الحياة «المرموقة» تلفظ ألبي تباعاً ليجد نفسه أخيراً في حي غرينيتش فيلدج في نيويورك وسط الفنانين والكتاب الطليعيين حينها. حتى باكورته المسرحية «قصة حديقة الحيوانات» (1958) اصطدمت برفض منتجي نيويورك ومسارح «برودواي» التي احتضنت لاحقاً معظم أعماله. المسرحية التي عرضت للمرة الأولى في برلين عام 1959، هي ابنة فترة الحرب الباردة في أميركا. جاءت أجواؤها محملة بمناخات المسرح العبثي، وهي تقول إن الإنسان مجرد حيوان يعيش داخل قفص، متخذة من العنف استعارة موازية لعزلة الإنسان الحديث عن طريق الصدمة. حواراته الطويلة المثقلة بسوداوية نفسية، عرّت العلاقات الزوجية كما مع الزوجين الأكاديميين في مسرحيته «من يخاف فيرجينيا وولف؟»، التي صنعت اسمه عندما عرضت في «برودواي» عام 1962. كان ذلك قبل أن تتحول «إلى ميدالية مشعة معلقة في رقبتي، إنها جميلة لكنها تافهة ومرهقة أيضاً» كما قال لصحيفة «الغارديان» عام 2004، وخصوصاً بعدما نقلها مايك نيكولز إلى الشاشة الكبيرة عام 1966، وأدت بطولتها إليزابيت تايلور مع ريتشارد بورتون. قرأ ألبي عنوان هذه المسرحية على مرآة في إحدى حانات نيويورك، لتثير سخريته حينها لأنها نكتة مثقفة تعني: «من يخاف الذئب السيّئ الكبير؟ أي من يخاف العيش من دون أوهام؟». لا تكفي الكوميديا عند ألبي لصناعة دراما مطمئنة أو سهلة. السعادة هي مجرّد وهم ساذج تماما كالدين والمال، أمام الطبقية والعنصرية وتهميش الأفراد التي حضرت في «موت بيسي سميث» (1959)، و«الحلم الأميركي» (1960)، ومسرحياته الثلاث التي نال عنها «جائزة بوليتزل للأدب»: «التوازن الهش» (1967)، و«منظر البحر» (1975)، و«ثلاث نساء طويلات» (1991).
هذه الأخيرة أتيح للجمهور اللبناني مشاهدتها بعنوان «3 نسوان طوال» (1999) بتوقيع نضال الأشقر، إلى جانب مسرحية أخرى لألبي هي «الشاغلة» التي أخرجتها لينا خوري عام 2011.