ما سمات أدب الانتفاضات العربيّة وما بعدها؟ يبدو هذا السؤال أشدّ إلحاحاً اليوم أكثر من أي وقت سابق لعدة أسباب، يحتاج التفصيل فيها إلى أبحاث ودراسات موسّعة، ولكن بإمكاننا القول بشيء من الثقة إنّ الانتفاضات قد انتهت جميعها وبدأت نتائجها؛ من الغريب أن ماهيّة النهايات لم تكن ذات تأثير على الأدب «الجديد» الذي رافق الانتفاضات، إذ تشابه أدب الانتفاضات «المنتصرة» مع أدب الانتفاضات المجهَضة، ولم يكنa ثمة استثناء إلا في البلدان التي لم تشهد انتفاضات، حيث تابع أدبها مسيرته السابقة وكأن شيئاً لم يحدث. ما معنى أنّ الغالب الأعم من هذا «الأدب الجديد» تعكَّزَ على التاريخ القريب؟ بدا الأمر وكأنّ تصفية الحسابات السياسية انسحبت على الأدب كذلك، لتصبح الرواية سلاحاً مختلفاً لإكمال المهمة التي عجزت عنها السياسة. هذه السمة بالذات ساهمت إلى حد بعيد في إضعاف الفن والثقافة حيث جعلتهما تابعين للسياسة بدل أن يكونا مرشدين لها.
وما زاد الأمر سوءاً هو تضاعف أعداد الجوائز الأدبية التي بدأت تفرض (ولو عن غير قصد) سمات محددة للأدب «المرغوب»، حيث لا بد أن يكون العمل الأدبي (الرواية على نحو خاص) كبير الحجم، قليل الدسم في ما يخص التابوهات، ومتّكئاً على التاريخ؛ أما معايير هذا التاريخ فتحددها تطورات الانتفاضات التي تلاشت لتترك المجال للثورة المضادة، وإنْ بثوب جديد.
تندرج رواية الجزائريّ الحبيب السائح «كولونيل الزْبَرْبر» التي صدرت أخيراً عن دار «الساقي»، وكانت إحدى الروايات التي رشّحتها الدار لجائزة «بوكر»، ضمن تصنيف رواية الأجيال المشحونة بكثير من جرعات السياسة والتاريخ والحرب والدم. تقدّم الرواية صورةً بانوراميّة لحرب التحرير الجزائرية وما تلاها من حروب أهليّة في فترة ما بعد الاستقلال، حيث نجد أنّ الراوية الأساسيّة هي طاوس الحضريّ التي وصلت حياتها إلى مفترق حين قدّم لها والدها جلال الحضريّ المعروف بلقب كولونيل الزبربر يومياته التي كتبها لتكمل بدورها يوميات والده مولاي الحضري المعروف بلقب بو زفرة. يمكن تلخيص مغزى الرواية بالجملة التي تقولها طاوس في بداية الرواية «إنها حال الوالد، كولونيل الزبربر، حال والده، جدي مولاي بو زفرة مثلما استحق ذلك لأنه كان كغيره من جنود جيش التحرير أشبه بالرجال في صمودهم؛ إنها حال جيلي الصارخ بتوهانه أن يُعاد إليه تاريخ آبائه». لا يمكن قراءة هذه الجملة بمعزل عن الجزائر كبلد، ماضياً وحاضراً؛ إذ كانت البلد العربيّ الوحيد عملياً الذي «نجا» من طوفان «الربيع العربيّ» رغم المراهنات الكبيرة التي كانت تُعقَد بشأنها. تابعت الجزائر مسيرة ماضيها الرتيب من سلطة عسكريّة إلى أخرى، ليصبح حاضرها، كما رواية «كولونيل الزبربر»، غارقاً في اللون الكاكيّ ورتابة الثكنة العسكريّة التي تسلّلت إلى جميع مفاصل المجتمع. الفرد ليس سوى ناقل للماضي وحكاياته «المشرقة» حين كانت الحرب واضحةً، والأنثى (مثل طاوس) ليست سوى ديكور فنيّ لإيصال الرسالة والأفكار التي يجب أن تكون كبيرة بالضرورة (وستكتمل الدلالات إذا عرفنا أنّ طاوس، كشاهدٍ صامت، حامل بجنين يمثّل المستقبل بمعنى ما). أما العالم الجوّاني للأشخاص والأشياء وتفاصيل الحياة اليومية فلا يعدو أن يكون خطاً عابراً في متاهة الخطوط العسكرية والسياسية.

يبدو العمل مونولوجاً طويلاً بين البطل ونفسه، حين يسرد بعين غير محايدة تاريخاً أرهقته الكتب

ما الذي نعرفه عن جيل طاوس في الجزائر؟ لا تقدّم لنا هذه الرواية (أو غيرها من الروايات العربيّة الأخرى) صورةً واضحة، إذ هم الجيل الذي يبدو بلا ملامح، بعد أن سيطر الماضي على الحاضر، وتابع رحلته في رسم ملامح مستقبل لن يعدو أن يكون ماضياً آخر. الفارق الوحيد هو نوع الحرب، إذ ثمة حروب «عادلة» وأخرى «غير عادلة». حروب الماضي، كما تومئ لنا الرواية كانت حروباً عادلة بالضرورة، لا سيما حين كان العدو أجنبياً، أما الحروب التالية الأهلية فهي تنويعات على الحرب القديمة ولكن باختلاف العدو الذي يتغير بتغيّر السلطة ورجالها. ولذا تبدو قراءة هذه الرواية مرهقة إلى حدّ كبير، إذ إنها تضجّ بالشخصيات والأحداث المتماثلة مع اختلاف الأسماء فحسب. ليس ثمة فارق كبير بين بو زفرة وابنه كولونيل الزبربر، إذ حاول الكاتب، بإصرار، إظهارهما بمظهر البطل الذي تفتقده الجزائر اليوم، بحيث يبدو الجيل الجديد ضائعاً بدونه، سواء شهدت البلاد انتفاضةً أو لا. المهم هو «البطل كليّ القدرة» أما باقي الشخصيات فكومبارس يُفضّل أن يكونوا صامتين، أو أن ينطقوا بما يريده البطل، بحيث تبدو الرواية مونولوجاً طويلاً بين البطل ونفسه، حين يسرد بعين غير محايدة تاريخاً أرهقته الكتب بسبب فرض وجهات النظر الذاتيّة. لا يهمنا هنا أن تتّفق وجهة نظر البطل مع وجهات نظرنا عن التاريخ؛ المعضلة الكبرى في الفن والحياة هي فرض اللون الواحد حتى لو كان لوننا المفضّل.
ما نواجهه في رواية الحبيب السائح، كمثال عن أدب ما بعد الانتفاضات، هو لعنة التاريخ والسياسة والعسكرة التي تغوّلت على الفن فأنهكته. التاريخ عابرٌ، كالسياسة، أما الفن فباقٍ. الجماعات عابرةٌ بصرف النظر عن مدى أهميتها، وما يبقى هو الفرد وعالمه الداخليّ الصاخب. هذا ما يعلّمنا إياه الفن الذي يتضمّن المتعة كشرطٍ لازم وكافٍ لا يمكن للعمل الأدبيّ أن يكتمل بدونه، أياً تكن أهمية أفكار الكاتب وأبطاله أو أخلاقيتها. ربما كنّا نشهد «نيوــ كلاسيكية» جديدة في المشهد الأدبيّ العربي في السنوات القليلة الماضية، كما نلاحظ من كمّ الروايات الهائل المتّسم بالتقليدية، أفكاراً ولغةً وأسلوباً، ولكنّ هذا التصنيف ليس مهماً بقدر ما يهمّنا النتاج. ما غاب عن ذهن معظم كتّاب «الأدب الجديد» هو أنّ الرواية فنٌّ أولاً وأخيراً، وأنّ فهمهم لها بكونها سلاحاً أو شاهداً أو ناطقاً بلسان العصر لا يعني تحميلها وطأة العالم الخارجيّ والسطح الظاهريّ للأشياء، بل أن تغوص بعمق أكبر في دواخل شخصياتها، لتنطق بما يُضمره الإنسان المسحوق، لا أن تتماهى مع المؤرّخ، فتكتب تاريخاً آخر لا يختلف عن التواريخ الأخرى إلا بوجهة النظر.