«إنَّ ما جرى في غيابي على أعزّ أصحابي هو ما أبحث عنه الآن مغامراً بحياتي وسط أجواء القتل الشبيه بالعبث» جملة يوردها المؤلف على أولى صفحات روايته، ليبرر لبطلها ذلك الشغف أو «الجنون» الذي اعتراه في بحثه المحموم عن أصحابه الذين تركهم مجبراً منذ قرابة ربع قرن لعيش المنفى الإسكندنافي. إلا أنّ الحقيقة أبعد من هذا بكثير، فالبطل عاد من منفاه إلى عراقه بعد سقوط الديكتاتور ليتلمس ماضيه، ووطنه الذي صار بطلاً لكوابيس المنفى، وحارساً أميناً على أشلاء أحلامه الموءودة. عاد باحثاً عن تلك الأفكار التي دفع أجمل سنوات شبابه ثمناً لها، وسيكتشف بعد حين أنّ تلك الأفكار، لم تكن إلا محض أوهام.لا نبتعد عن الحقيقة كثيراً إن وجدنا في رواية «حياة ثقيلة» (دار الأدهم، القاهرة ـــ 2015) للروائي والقاص العراقي سلام إبراهيم، سيرة ذاتية كتبها المؤلف ليدوِّن خلاصة يومياته المرَّة.

يوميات العراقي الذي تحوَّلَ بعدما بلغ الستين من عمره إلى مجرد صندوق عتيق يكتنز ذكريات الخيبة ورعب المعتقلات، وأحكام مجتمع مريض «يكتظ بذئاب بشرية» تنقض على شاب حالم يمتلك بعض وسامة. «شكلي فيه لمسة أنوثة، أستطيع تشخيصها كلما تصفحت صوراً من تلك الأيام، تعرضتُ إلى محاولات اعتداء ممن كان يتصنع الاهتمام بالثقافة والفكر، مما هزَّ ثقتي بالمحيط بشكل عام وخلق في نفسي شيئاً من الريب بالآخرين. تعرضتُ إلى تشويه السمعة، وكنت أدرك وقتها طبيعة اللغط الذي يدور حولي..». هكذا يصوَّر لنا بطل الرواية بداية الخيبة وهو يتذكر ماضيه وأيام عنفوان الشباب الذي سخَّره للاهتمام بالثقافة والنضال السياسي المعارض للسلطة. صحيح أن الرواية تتحدث عن خواء المنفي وخيبته التي تتعاظم حين يعود إلى وطنه باحثاً عن ذكرياته، متوهماً أنه سيجدها متمثلة بأشخاص تركهم لسنوات طوال، إلا أن لوعة الماضي ومرارة الخيبة التي عززتها وجوه الأصدقاء بشيخوختهم المستمدة من شيخوخة الوطن، لم تشكلا أمامه إلا صورة واقعية للخراب.

دراسة التحولات التي طرأت على الشخصية العراقية على مدى 30 سنة

تتوزع الرواية على ثلاثة فصول يهيم في فضائها بطل الرواية باحثاً عن أشخاص يرتبط وإياهم بماضٍ مفعمٍ بالمواقف والذكريات، وقد خصص كل فصل لشخصية تشكل بالضرورة المركز الذي تدور في فلكه أحداث الفصل الخاص بها. رحلة بين الماضي والحاضر منحت الرواية أهمية خاصة في مجال دراسة التطورات أو التحولات التي طرأت على الشخصية العراقية لفترة امتدت لأكثر 30 عاماً، بل تذهب الرواية أبعد من ذلك. هي لا تهتم بتحولات الشخصية العراقية فحسب، بل أيضاً بتحولات شخصية الوطن الحاضن لأحداثها وشخوصها. يظهر الوطن أمامنا بصورة محزنة لا ينقصها الخراب: «تلك الحدائق الغنّاء، تحولت إلى بيوت عشوائية رثة. هجم أغراب فقراء هدموا وخربوا الحدائق وبنوا بيوتاً ملطخة أبوابها بالحناء وترفرف الأعلام السود والخضر فوق أسطحها الناصية، وعلى الجدران عُلِّقت صور لمعممين خرجوا من ظلمة التاريخ ليزيدوا المشهد القاتم قتامة».
«حياة ثقيلة» التي تحاول الكشف عن أسباب خراب الروح البشرية «عراقياً»، تكشف لنا أيضاً ذلك اليأس الذي صار أهم ما يميز تلك الروح. نجد أن حياة العراقي، كانت وما زالت، مجرد نوافذ يتأمل عبرها مستقبله من دون أن تتحرك بداخله رغبة العمل على تحقيق أحلامه. صار كأنه ينتظر المخلّص الذي سيهديه النعيم بدلاً من الخراب؟ الرواية تبدأ من النافذة حيث يجلس بطلها الستيني متأملاً جدوى سنواته التي مرت بكل قساوتها ومرارتها، وتنتهي بالرجل نفسه وهو يتأمل من خلال النافذة نفسها سنواته الستين وهي تهبط إلى الأرض كندف ثلج، كأنه يشير إلى الوهم، إلى تلك السنوات التي كانت ترتحل إلى الأسفل من دون أن يدري. رواية «حياة ثقيلة» تسجل حضورها المهم بين العديد من الروايات العراقية التي تخوض في زمن الإرهاب والقتل، لتسجل موقفها الرافض للإرهاب بوضوح، طارحةً ما يؤمن به المثقف العراقي بأن الإرهاب لا ينتمي إلى دين معين أو طائفة أو قومية، بل ينتمي إلى الثأر المبيَّت منذ سنوات، والاستهتار بالروح البشرية الذي زرعته حروب الديكتاتور في روح القتلة. وبهذا ينضم سلام إبراهيم إلى عدد غير قليل من الروائيين العراقين الذين يتبنون هذه الفكرة. سنقرأ هنا عن القتل المبهم الغامض الذي لا منطق فيه سوى الانتقام. انتقام العراقي من العراقي كأن الاحتلال أيقظ الوحش الكامن في نفوس أبناء بلدنا فعادوا يقتلون بعضهم تنفيذاً لأفكار مجردة أتت بها سلطة طائفية مفبركة في بلد خربه دكتاتور ثم احتلال سلم مقاليد العراق لحفنة من الساسة الفاسدين.