يستكشف الفيلسوف الفرنسي رولان بارت (1915 ـــ 1980) في كتابه «إمبراطورية العلامات» (1970) الصادر أخيراً بترجمة عربية عن «منشورات الجمل» (ترجمة توفيق قريرة) بشكل شبه خيالي اليابان عبر منظور العلامات والرموز. لا يسعى عالم السيميائيات الشهير إلى وصف «بلاد الشمس المشرقة» كما هي في الحقيقة، بل يهدف إلى استخدام بعض سِمات اللغة والفكر اليابانيين كمرآة للحكم على تصنيفات التفكير الغربي من منظور مختلف. عبر فحص المفاهيم التي تنقلها اللغة اليابانية، مثل مكانة الفاعل في الخطاب، والحد الفاصل بين ما هو حيّ وغير حيّ، يأمل بارت في إحداث اهتزاز ما، في طريقتنا المعتادة في التفكير، وإلهامنا بإعادة النظر في بديهيات لغتنا الأمّ، وفي المنطق الغربي الموروث من أرسطو الذي يميل إلى تصنيف العالم بشكل صارم إلى فئات متمايزة.

يبدأ بارت بتحليل العناصر المرئية في اليابان: الخط، المطبخ، المدينة، وحتى السلوكيات الاجتماعية، ويسعى إلى إظهار كيفية عمل هذه العناصر كعلامات تحمل معانيَ متعدِّدة. يعتبر الفيلسوف الفرنسي موضوع الفراغ جزءاً أساسياً من الثقافة اليابانية. هذا الفراغ ليس مرادفاً للغياب، بل مساحة مليئة بالإمكانات في مجالات العمارة، والفن، أو الطقوس الاجتماعية إذ يسمح للأشكال بالانتشار وللمعاني بالتحوّل. يحكي لنا الكاتب عن تجربته الاستثنائية بأن يكون محاطاً بلغة غريبة غير مفهومة، ما يخلق حوله نوعاً من «الفقاعة الواقية» التي تعزله عن جميع الأحكام والتصنيفات الاجتماعية التي عادة ما تنقلها اللغة، وتسمح له باكتشاف مدى غنى التواصل غير اللفظي في اليابان، سواء عبر لغة الجسد، أو تعابير الوجه والثياب.
يصف الفيلسوف والناقد الفرنسي بإعجاب طقوس المائدة اليابانية، إذ تُقدَّم الأطباق كلوحات فنية ويُبرز لنا رشاقة المأكولات اليابانية ودقتها ورفاهيتها، بدءاً من نسيج الأرزّ الناعم إلى لطافة الحساء الشفيف. يُمعن في وصف دور أعواد الأكل في المطبخ الياباني مقارناً بين لطفها وعنف أدوات المائدة الغربية، خصوصاً الشوكة والسكاكين القاطعة المفترسة، إذ تداعب الأعواد الخشبية الأطعمة برفق أمومي، وتفصلها مُتّبعة خطوطها الطبيعية بلا عنف، آسرة إياها بلطف نحو الفم. يصف الكاتب أيضاً تحضير «السوكياكي» وتذوقه، وهو حساء ياباني يُطهى ويُستهلك مباشرة. في البداية، تُقدَّم المكونات النيئة (اللحم، الخضروات) بشكل جميل وملون، أشبه بلوحة طبيعية، ثم تُطهى تدريجياً في قدر أمام الحضور. ومع تقدُّم الطهي، تفقد شكلها وألوانها الزاهية لتتحوّل إلى صلصة بنيّة. يشير بارت إلى أن وجود المُكونات الطازجة أساسيّ في المطبخ الياباني، إذ يُعتبر الطهي أمام الضيوف عملية مقدسةً ومناسبة للاحتفال بجمال الأطعمة وألوانها وملمسها ودقتها قبل أن تزول.
في مكان آخر، يُقارن الفيلسوف بين مفهوم المدن الغربية التي تتميّز بمركز مكتظ يضمّ جميع أماكن السلطة مثل الكنائس، المكاتب، البنوك، والمتاجر، ومفهوم المدينة اليابانية. في العاصمة طوكيو، هناك مركز جغرافي لكن فارغ حرفياً، إذ يضم مقر إقامة الإمبراطور، وهو مكان محظور وغامض مخفي وراء الأسوار والنباتات. وبينما تُبنى المدن الغربية حول نواة ممتلئة ترمز إلى «الحقيقة» واكتمال الحضارة، تدور طوكيو حول مركز فارغ مقدَّس. هذا الفراغ المركزي يُجبر الحركة الحضرية على التحرك بشكل دائم في طرق ملتوية بدلاً من التجمع في نقطة محورية.
يلاحظ صاحب «شذرات من خطاب في العشق» أنّ ممارسة تقديم الهدايا في اليابان تكون مليئة بالمعاني، فغالباً ما يتمُّ تبادل الهدايا في مناسبات محدّدة مثل الزيارات، الأعياد، والاحتفالات، وهناك توقعات دقيقة حول كيفية تقديم الهدايا وتلقيها. هذه الطقوس تحوّل العطاء إلى شكل من أشكال الاتصال غير اللفظي، حيث لكل حركة وتفصيل دلالة. كما يشير بارت إلى أهمية تغليف الهدايا في اليابان، فالغلاف يجب أن يكون جميلاً، ومرتباً، ما يعكس الاحترام والاهتمام بالمستلم. وهو يكاد يكون أكثر أهمية من الهدية نفسها التي غالباً ما تكون تافهة (حلويات، أشياء صغيرة). يلاحظ بارت أيضاً أنه على عكس بعض الثقافات الغربية حيث يمكن أن تكون الهدايا فاخرة وتعكس الوضع الاجتماعي لمرسلها، فإن الهدايا اليابانية غالباً ما تكون متواضعة وتُختار بعناية لتجنب أي انطباع بالتفاخر أو الغرور.
يقارن بارت بين مفهوم التهذيب في الغرب ومفهومه في اليابان. في الغرب، يُنظر إلى التهذيب بشك وريبة، حيث يُعتبر شكلاً من أشكال النفاق، بينما يُعتبر التعامل «غير الرسمي» مؤشراً على الصدق، ورفض الزيف. على العكس من ذلك، يرى بارت أن التهذيب الياباني، مع رموزه الحركية الدقيقة، هو «ممارسة للفراغ»، فالإيماءات في الثقافة اليابانية تمثيلات شكلية، لا تحمل معانيَ شخصية عميقة، بل هي جزء من ممارسة اجتماعية تحافظ على النظام والتوازن الاجتماعي والاحترام المتبادل.
ترجمة عربية جديدة لـ «إمبراطورية العلامات» عن «منشورات الجمل»


أما شعر الهايكو، فيعتبره بارت شكلاً فنياً معبراً عن البساطة والفراغ واللحظية. الهايكو، بشكله الموجز والمركز، يلتقط لحظة من الزمن ويعبر عنها من دون تعقيد أو تفسير زائد. هذه القصائد القصيرة تُجسِّد فكرة الفراغ أو «المساحة الفارغة» التي تترك للقارئ الحرية في ملء المعاني بناءً على تجربته الشخصية. يلاحظ بارت أنّ الغرب يميل إلى تفسير الهايكو بطريقة تختلف عن نية الشاعر الياباني الأصلي. ففي التقاليد الغربية، هناك ميل إلى تحميل النصوص بالمعاني العميقة والتفسيرات المفرطة، بينما الهايكو الياباني يهدف إلى توصيل إحساس مباشر وبسيط من دون الحاجة إلى التحليل المعقد.
يجري رولان بارت مقارنة عميقة بين مسرح «البونراكو» الياباني والمسرح الغربي، مُسلطاً الضوء على الفروق الجوهرية بين هذين النوعين من الفنون المسرحية. يصف مسرح البونراكو بأنه شكل فنيّ يتجلى عبر تفاعل مُعقد ودقيق بين الدُّمى والمُحرِّكين الماهرين، إذ يتحكّم ثلاثة أشخاص في دُمية واحدة، ما يسمح بتحقيق حركات مُتقنة وذات دقّة عالية. هذه الدمى لا تسعى إلى محاكاة الحياة بشكل واقعي، بل هي رموز تُعبّر عن الشخصيات والمشاعر بطريقة غير مباشرة، معتمدة على حركاتها المدروسة لتوصيل معنى عميق من دون الحاجة إلى تعبيرات وجه حيّة أو أصوات بشرية. في المقابل، يُشدّد المسرح الغربي بشكل كبير على التمثيل الجسدي والصوتي للممثلين الأحياء، ويعتمد على قدرة الممثلين على تجسيد الشخصيات والمشاعر بواقعية وإيصالها بشكل مباشر للجمهور. يرى بارت أنّ الفلسفة الكامنة وراء هذين الشكلين المسرحيين تعكس توجُهات ثقافية مختلفة. في حين يركز البونراكو على الجماليات والتقنية ويتعامل مع الفن كوسيلة للتعبير عن العالم بشكل رمزي وتأملي، فإن المسرح الغربي يسعى إلى الواقعية والاتصال المباشر، ما يجعل التمثيل الحيّ هو المحور الأساسي.
تلك هي اليابان، بلد المفارقات الجذابة، عالمٌ مفعمٌ برموز وإشارات متداخلة تدعونا إلى إعادة النظر في مُسلّماتنا وتقييم طرق تفكيرنا المستمدة من النظام الغربي. في رحلة استكشاف هذا الشرق البعيد، يأخذنا رولان بارت في جولة ساحرة عبر آفاق مشرقة بالشمس، بعيداً عن الحضارة الغربية. إنها دعوة إلى فتح عقولنا واستكشاف الحكمة المستترة في حضارات الشرق القديمة.