يذخر كتاب «على فين يا مصر؟ جذور المشكلة ومتطلبات النجاح» (دار الشروق ـ القاهرة) للكاتب والأكاديمي المصري عز الدين شكري فشير (1966) بالاقتراحات والخطط التي يمكن العمل بها للوصول إلى الحكم الرشيد في مصر، ثم الانطلاق لبناء سياسات تخدم جميع المواطنين. لا يستغرب فشير الذي يعمل حالياً في التدريس في إحدى الجامعات الأميركية، من تدهور مصر الدولي ويضرب مثالاً على ذلك عدم قدرتها على الدفاع عن مياه النيل و«رضوخها لتدخلات خارجية». ويرى أنّ ذلك سببه الفقر الذي «يهدر مواهب الناس»، معتبراً إياه «تردياً متوارثاً» وليس «وليد سياسات النظام السياسي الحالي كما يزعم معارضوه».


وقد ابتعد فشير نفسه عن الحياة العامة والسياسية في مصر، فاتجه إلى التدريس في الولايات المتحدة الأميركية. وعبر صفحات الكتاب، نكتشف أنّ هذا التوجه كان يأساً من «وحش يعيش معه ويشكّل مسار حياته» وهو مشكلة مصر.
يقع الكتاب في خمسة فصول تأتي بعد تمهيد شخصي تحدث فيه الكاتب والروائي والديبلوماسي السابق في الخارجية المصرية، عن الصراع بينه و«الوحش» الذي يتحكم في مصر منذ القدم، فيستحيل معه التغيير والتقدّم. أما في المقدمة (كيف نفهم مشكلة مصر؟)، فيطلب فشير من القراء أن يأخذوا في حسبانهم خمس ملاحظات مهمة لدى القراءة، علّها تساعد في فهم ما ينبغي فعله لمعرفة أعمق بأصل المشكلة المصرية وجذورها. يرى مثلاً أن تقييم أداء النظم السياسية السابقة «يحتاج إلى عناية خاصة»، والهدف منه ليس الاتهام أو التبرئة. ولذا يجب تجنّب التفسيرات السهلة والبسيطة التى توجّه إلى شخص ما أو نظام سياسي. إذ يرى أنّه حين يحكم القادة البلاد، يتعاملون مع أوضاع وقرارات متعدّدة تحتاج إلى رؤية كبيرة قد لا تتوافر لهم نظراً إلى غياب المعلومات. ويقرّ فشير في ملاحظته الخامسة في المقدمة بأنّ رؤية الكتاب «محدودة» لأنه لا يمكن لشخص أن يلم بكلّ جوانب الظاهرة التي يحللها.
وفي الفصل الأول (مئتا عام من تهالك الدولة واستبدادها)، يناقش فشير مُدد حكم محمد علي (1805-1848) والمرحلة الليبرالية في مصر (1922-1952) وحكم جمال عبد الناصر (1956-1970) لأن المصريين يشيرون إلى هذه المُدد باعتبارها ناجحة ـــ اقتصاديا تقريباً ـــ إلى حد ما. ورغم أن محمد علي اختاره الناس بإرادتهم، إلا أنه تحول في غضون سنوات، إلى مستبد، وكان لدى الناس أمل في أن يستغل حكمه المطلق لإصلاح البلاد. ويتحدث الكتاب عن الجانب السيء من الحكم المنفرد لمحمد علي، فالنهضة الاقتصادية التي تحققت كانت عن طريق استبداد وظلم تعرض لهما الفلاحون المصريون والسودانيون. هذا الحاكم القوي فشل في إنشاء نظام سياسي رغم «إنجازاته» الاقتصادية. ويدّعي فشير أنّ هناك تشابهاً بين محمد علي وجمال عبد الناصر، فكلاهما «مستبد حاول أن يحقق نهضة اقتصادية». الفصل الثاني جاء بعنوان «منابع تهالك الدولة واستبدادها» حيث يقدم فشير إشارات مهمة عن أنظمة العمل داخل الدولة المصرية التي ساعدت في الاستبداد والممارسة الرمزية للسياسة، ويظهر كيف أنّ «نظام المحاسيب» كان معتمداً في إدارة الدولة، وأنّ حُسن إدارة جهة ما اعتمد على مجيء مدير استثنائي للعمل فيها، ما ينقل المؤسسة/ الجهة إلى مستوى جديد من الكفاءة وحسن الأداء. وحين يرحل تعود المؤسسة كما كانت!
عوّم حسني مبارك السياسة والاقتصاد من دون أي تغيير جذري وحقيقي


وفي الفصل الثالث (الدائرة المغلقة: لا الاستبداد نافع ولا الثورة)، يشرح تفاصيل كثيرة عن «الثورة الإدارية الصورية» والتعددية السياسية الشكلية، وكيف عوّم مبارك السياسة والاقتصاد من دون أي تغيير جذري وحقيقي لأسس السياسة أو اقتصاد الدولة. ويوضح الكتاب كيف أنّ ثورة 25 يناير 2011 أكدت أنّ الاستبداد والتهالك في الدولة المصرية مترسّخان عبر الفوضى الإدارية التي شهدتها الحكومة في هذا الوقت والصراعات التي نشأت بين التيارات السياسية، وبالتالي فشل الجميع في التحول إلى نظام ديمقراطي. ويؤكد مؤلف الكتاب أنّ الجراح التي سبّبتها الأنظمة الاستبدادية التي حققت طفرة اقتصادية في الصين وألمانيا وإسباينا باقية إلى اليوم، بينما يروّج بعضهم الآن للديكتاتورية عبر هذه الأمثلة.
إذا وصلنا إلى الجزء الرابع من الكتاب، فهنا تبدأ طريقة الخلاص التي يعتقد فشير أنّها ممكنة لحلّ مشكلة مصر. في فصل «طريق النهضة والحكم الرشيد»، يلخّص فشير أفكاره بأن تحقيق النهضة يتطلب: استبدال نظام المحاسيب الذي يحكم عمل مؤسسات الدولة التنفيذية، وتمكين قوى السوق من بناء كيانات اقتصادية، وتمكين قوى المجتمع من بناء مؤسساتها بشكل مستقل. ويفنّد الأمر بقوله إنّ العمل على هذه العناصر يجب أن يتم عبر اتفاق بين الأطراف السياسية الفاعلة «بما يحمي الحد الأدنى من مصالح كل طرف، لإنجاز التحولات الصعبة». في الخاتمة، يوضح فشير أنّ الخيارات السهلة والمعتادة لا يمكن أن تحقق النهضة في مصر، مشيراً إلى أنّه على الأطراف السياسية التفاوض لتحقيق النهضة والانتقال إلى الحكم الرشيد. وهذا طبعاً صعب في مصر الآن، ولكن الطرح ليس غريباً على فشير، متى استعدنا قصة صحافي جاء إلى منزل فشير احتفالاً بكونه من أوائل البلد في الثانوية العامة، وسأله عن «هدفه في الحياة»، فأجاب فشير: «تغيير نظام الحكم في مصر». النظام الذي يقصده فشير وقتها وقد كان يبلغ 16 عاماً، لم يتغيّر حتى الآن!