يصور لنا الكاتب منير الحايك في روايته «يوميات عقيمة» (الدار العربية للعلوم ناشرون) التناقضات الاجتماعية السائدة في كثير من المجتمعات العربية. تناقضات موجودة مهما حاولنا إخفاءها أو إظهار أنها تنكمش في الزمن الحاضر، حيث تناط بالمرأة أدوار معيّنة تضطرّ إلى القيام بها حتى تحصل على رضى الرجل الذي لا يدّخر جهداً في ترسيخ سطوته وجبروته. وفي الوقت الذي يحاول فيه بعض الساسة ورجال الدين والحقوقيون وغيرهم توضيح حقوق المرأة كما وردت في كتب الدين والقانون والانتصارات العظيمة التي حققتها في العصر الراهن، نجد أن القوانين نفسها تحرمها الكثير من الحقوق كحقّ توريث جنسيتها لأطفالها، وحتّى حق حضانة الأطفال أحياناً رغم تعارض ذلك مع نصوص دينية!


وقد استخدم الكاتب عنواناً مخادعاً، ربما كي يتناسب مع التناقضات الحاصلة في الرواية ومن ورائها المجتمع ككلّ. فقد يشير العنوان إلى وصف لأحداث يومية مكرورة بشكل مملّ وخالٍ من الإثارة أو الحيوية، أو إلى مذكرات امرأة تعاني من العقم.
لا تتوقف التناقضات عند هذا الحدّ، بل تتجاوزه إلى التناقضات الشخصية؛ إذ المرأة نفسها التي تحمَّلت ظلم الرجل تُعرِّض بنات جنسها للظلم! والرجل المعجب بالمرأة الغربية وما حققته من تغييرات وإنجازات يمنع «امرأته» العربية من الاستقلالية. وهنا يمثل أمامنا مثال «حسان الأسعد»، اليساريّ العنيد، ولكنّه عندما قرَّر الارتباط، فقد اختار ابنة الرأسمالي المعروف، والطائفي المتباهي بانتمائه! رغم يساريته وأسفاره وثقافته، ظلّ حسّان منغلق العقل، أسيراً للعقلية الذكورية التي تبيح له السيطرة على المرأة وتحويلها إلى خادمة تلبّي احتياجاته وتقدّم فروض الطاعة له.
وهذا يذكّر بشخصية المهندس «رياض المرادي» في مسلسل «عصي الدمع» للثنائي الكاتبة دلع الرحبي والمخرج حاتم علي، اللذين لن يخذلاك أبداً بتقديم طرح جديد ومقنع. نرى هنا المهندس الناجح العاشق للموسيقى الكلاسيكية والسيمفونيات الراقية، الحريص على أناقة اللباس و«البرنيطة» التي يلبسها في حلّه وترحاله، رغم غرابتها على مجتمعه الذي يعيش فيه، هذا المهندس المثقف ما هو إلا رجل شرقي في باطنه، يريد زوجة يمتلكها، يملي عليها ما عليها أن تكونه، ويمحو قناعاتها ليرسّخ فيها قناعاته!
ومن تناقضات شخصيَّة حسَّان إصراره على اختيار الصبي وإن كانت فاطمة غير موافقة! هي أرادت فتاة «تجدّل لها شعرها وتشتري له البِكَل والربطات الجميلة، وتشتري لها الثياب والذهب والأساور، وتضع لها الماكياج والمانيكور والبيديكور، وتكون صديقتها ورفيقتها!». أما هو، فما زال يفضِّل الصبيّ «فالأفضل أن يكون صبيّاً، لا بنتاً ستصبح صبيةًّ في الوقت الذي سيكون فيه عجوزاً أو ميتاً، فلا يستطيع تربيتها كما يريد، أما الصبي، فلا بأس بقراراته مهما كانت!». وكان له ما أراد!
القارئ نفسه سيشعر بالتناقض إذا حكم على حسَّان بأنه شخص سيء، أو إذا اعتبر حسَّان ضحية للمجتمع والظروف! فحسَّان هو تمثيل لليساري المهزوم الذي كفر بكلّ ما قام به من أجل مبادئه وأفكاره، كما كفر بكل ما ضحَّى من أجله! فخيبته كانت الأساس الذي أدَّى إلى استسلامه وتخليه عن مبادئه، أو ربَّما إخفاء كل ذلك في عقله الباطن ليكمل حياته شخصاً مناقضاً لنفسه.
إضاءة على التناقضات الاجتماعية السائدة


فاطمة هي إحدى ضحايا هذا المجتمع الذكوري، أفنت زهرة شبابها في خدمة الرجل، سواء أكان هذا الرجل أباً أم أخاً أم زوجاً، لم تكمل تعليمها، ولم تحصل على كثير من حقوقها! حتى حصتها من الميراث تقاسموها أمام عينيها وفي حياة أبيها، ولم تحصل إلا على الفُتات! ومع ذلك، لم تسلم من التناقضات! ففاطمة المتدينة الخجولة التي كانت تستنكر القبلات بين دلال وخطيبها، وتتعجب من صفاقة المنهج المدرسي الذي يشرح عملية الحمل وكيفية تشكل الجنين، ها هي تناقض نفسها الآن، وتتحدث بجرأة عن حياتها الزوجية وما يحدث في غرفة نومها مع زوجها، بل أكثر من ذلك؛ تتعرى أمام الكاميرا لسعد! حتى قبل الزواج والسفر والخروج من مجتمعها الشرقي بكل قيوده، وفي الوقت الذي كانت وجنتاها تحمرُّ خجلاً من أبسط المواقف، لم يمنعها هذا الخجل من أن تقول لسلامة ذات نقاش عن فيديو تعليمي عن التكاثر: «سكس بالصفّ؟!... بصراحة أثارني الأمر وأنتِ تتحدّثين، كيف إن شاهدتُ الفيديو؟ كل العملية مثيرة، لا تضحكي لسرعة إثارتي، ولكن حلمتايَ انتصبتا وتصلّبتا انظُري»!
ولأنها لم تعِش لحظة سعادة واحدة - عدا عن لحظات الحب العذري مع ذاك الجنديّ السوري الذي ذهب بلا عودة - فقد دفعها ذلك للبحث عن السعادة قبل فوات الأوان، ويطفو التناقض فوق السطح مرة أخرى حين بحثت عن السعادة في ظلّ رجل! قبلت بالزواج من حسّان ليس لأنها أحبته وإنما لأنه يمتلك «مؤهلات» اعتقدت أنها ستصنع لها السعادة! وعندما لم تجد السعادة في الزواج بحدِّ ذاته؛ راحت تبحث عن السعادة في الإنجاب، وبدأت معاناة محاولات الحمل والفشل، وبعدما حصلت على ثائر بعد طول صبر «ها هو ثائر يبكيها أحياناً وهي تراه يعيش وحيداً، بعيداً عن كل ما هو طبيعي في حياة الطفل» لتكتشف أن من يبحث عن السعادة كمن يطارد سراباً!