هذا شعبٌ ــ أسوةً ببلدان القرن الأفريقي وجنوب الصحراء ــ يعاني من حيف مزدوجٍ: سياسيّاً، بإدارةِ بقيَّة العالم العربي ظهرهُ لهُ كأنَّه ليس جزءاً منه؛ وثقافيّاً، بإهمال دور النشر والصحافة الثَّقافيَّة لإنتاجه الإبداعيّ والفكري. يفاقمُ هذا الحيفَ تركيزُ الإعلامِ الملتزم بقضايا الإنسان على غزَّة وحدها، في إغفال شبه كامل لمآسي اقتتال القوى الاستعمارية وتوابِعها مِنْ مشيخات الخليج بدماء السودانيين وبِقواتهم النظاميَّة المسلَّحة لتسهيل نهب خيراتهم فوق الأرض وتحتها. هذا البلد الذي كان بالإمكان أن يصيرَ ـــ عبرَ إنماء وطني حقيقي، ــــ سلَّة غذاء كل أفريقيا، صارت تتناهبهُ المجاعات والكوارث الطبيعية ومجازر التناحر الداخلي التي يقترفها الجهازان العسكريان الرسميان بحق الأهالي قصد إبقائهم على قيدِ خوف دائم من الانتفاضة بتأطيرهم من القوى الحيَّة، سعياً إلى إرساء نظام وطني ديموقراطي (آخرُها مجزرة وادي النُّورة هذا الأسبوع، التي راح ضحيَّتها 200 شخص، كلهم مدنيُّون).هذا الواقع الأليمُ نتاج تعاقُب ـــ عبرَ جُلّ تاريخ السودان الحديث ـــ لأنظمة حكم عسكريَّة تتحالف مع الإخوان المسلمين، ما أسهم في كبح الحريات العامة باسم أحكام الأرض الديكتاتوريَّة وأحكام «السماء» الجائرة في قراءة المتن الديني. خنقُ حريات عانى منه بشكل رئيسٍ الأطفال والنساء (فظاهرة ختان البنات مثلاً باسم هذا الاضطهاد المزدوِج ظاهرةٌ تتركَّزُ كثيراً في السودان وبلاد النُّوبة المصريَّة). هذا الملف تحيَّة إلى الشعب السوداني في مواجهته للاستبداد المعتمِل في أرضه وللقوى الاستعمارِية التي تحول دونَ تحقيق تحرُّرِه... تحيَّة إلى مبدعي السودان وقواه الحيَّة، تحيَّة إلى نسائه وأطفاله

جلال يوسف ــ «رجل بغصّة في القلب»


1- حاتم الكِناني: كل شيء فيها يبدأ بمعجزة وينتهي بالحنين العميق
البلاد متخمة بأسباب النوستالجيا، ورغم الخراب الكولونيالي التليد؛ إلا أنّ كل ذرة غبار فيها قابلة للتغني. البلاد الممتلئة بالأشجار الرومانسية التي استجلبها كتشنر إلى هند أفريقيا النابض. البلاد المصابة بنرجسية الهوامش. كل شيء يبدأ ــ يقول حسن نجيلة ــ بفوز، العباسي والبادية، الخليل واللمين، شعراء بادية الحقيبة، ولا ينتهي بتلويحة علي عبد اللطيف عبر نافذة قطار الشمال إلى الأعين الخائنة. ولمئة عام أيضاً، لم يكن هناك ما هو أكثر جوهرية من صندوق المذياع: الانقلابات، محمد وردي، نتائج الزراعة الاستعمارية لطبقة الأفندية، الطيب صالح يتلو بانوراما الاستقلال، مصطفى سعيد يغزو بلاد الشمس والظلام معاً، معجزة قطارات الحبوب الزيتية، حروب المائدة المستديرة، الأستاذ والمشنقة وقبره المجهول، أغاني البنات، أبو داؤود وخموره الصوتية، خضر بشير فوق الشجرة، أكتوبريل الأبيض، كلب الديمقراطية الأسود، سينما ساحات الفداء، جون قرنق دي مبيور، محمود عبد العزيز. لم يكن هناك صوت أكثر من الأغاني الحزينة التي نزفها المصطفى، واستهلكها روّاد الأيديولوجيا كما استهلكها العشاق المحفوفون بمخاطر الفراق. كل شيء فيها يبدأ بمعجزة وينتهي بالحنين العميق.

2-نجلاء عثمان التوم: المُزارعُ حَرفٌ في لغة الطين
غفل من الأسماء
كنا ندحرج الساعات
بانتظار الغد.
لو كنا رمزاً قومياً
سارية علم
أو نشيداً وطنياً
لما انتظرنا شيئاً
كنا سنضع أيدينا
في يد المنتصر
نتلو بيانه الأول
ونحلق في الأثير،
لكن المُزارع حرف
في لغة الطين
وهو لا يحلق
إلا في جوف أرضه

3- محمد عبد الخالق: الوجهُ الآخرُ للعدو
يطولُ الحديثُ عنه،
ميجور جنرال غوردون.
حديثٌ متعددُّ الألوانْ،
ميجور جنرال غوردون
حزنُ أمَّتِهِ ومجدها،
عارُ الوزارةِ الآفلة،
وأغنيةُ (فليت ستريت) المرسلة
حينَ يتشكَّلُ البطلُ بين خيوطِ الغُموضْ،
وحليبِ الأحلامِ العتيقة،
هل يبدو كلُّ شيءٍ فيكتوريَّاً
تحتَ غبشةِ الغِياب؟
كانَ مشهدُ النَّهرِ من
على السَّطحِ وسُفنِ البِحارِ
المجندلة،
ستائرُ القصرِ الممزَّقة،
والدَّمُ المسفوحُ على الدَّرج،
والمزهريَّات،
كانَ كلُّ شيءٍ يقول؛
خرجَ تشارلس جورج غوردون
من البيتِ في ساوث هامبتن
إلى الحرب،
وقُتلَ في المعركة،
بكاملِ هندامهِ العسكريّ.

4- محمد عبد الحي: مثلما ينامُ طفلُ الماء...
ونمت
مثلما ينامُ في الحصَى المبلولُ طفلُ الماء
والطَّيرُ في أعشاشهِ
والسَّمكُ الصغيرُ في أنهارهِ
وفي غُصونها الثِّمار
والنُّجومُ في مشيمةِ
السَّماء.

5- مغيرة حسين حربية: يرقص اليمام
مضوا بعيداً...
ذهبوا في الممرات الحافية.
لم تعد مَرَامُ تكلم سوى العصافير النازحة
وذهبت أمي مع الموتى القدامى،
مع الريح
وأسلاف القمر...
وبقيت هنا
جاثياً
أراقب الأرواح الكفيفة
تخرج من ثلمة الغناء على غصن الليمون.
في البدء،
يعزف الطيبون أشعة الصباح الأولى
في النهاية،
يقررون مواراة الكمنجة...
كلها..
ويدفنون اليمام في مقبرة البيت.
كنت شاهداً على تحطيم لوحة الصلحي الأخيرة
وتحطيم مرسم مستر جورج إدوارد
عمر خيري
الفاتن
-اللندني المجنون- والعتيق،
ومحو لافتات جحا الشقية، في أم درمان القديمة.
أسأل مَآتِي العصافير في شجر البلاستيك،
- من تكونون؟
تجيب مرام من نافذة بعيدة
- لا تهتم يا ولد..
ويعزف الطيبون، خلفها، أشعة الصباح
وترقص شجرة الليمون يا أمي...
يرقص اليمام في الأخير...
يرقص في النهار.

6- أمل عمر إبراهيم: ثوبان
في آخر كلّ أسبوع
أُعِدُ ثوبين
أحدهما لأجل ليلة حبٍ مُحتَمَلة
والآخر لتَقَبُلِ عزاءِ خذلانه
أُعِدُ مشروبين
أحدهما لأنسى
والآخرَ لأُخَلِّدُ اللحظات
أُعِدُ باقتي ورد
أحداهما للحزن
الأخرى للنشوة
أُعِدُ مطفأةَ حريقٍ وجاروفَ ثلج
وأنتظرُ رجلاً أُحِبُه
رجُلاً قابلاً لكلِّ احتمال
لرُبما يأتي
في الغالبِ لا..

7- جمال الدين علي الحاج: وسقطت ورقة التوت
كان منفصماً عن ذاته وهو يصلِّي بالناس استسقاءً؛ وكنت خلفه مع روحها أتلو صلواتي، وقلبي غارق في وحل الأسى. روحها التي اشتعلت كألعاب نارية مبهرة قبل أن تتلاشى في الفضاء تاركة جسدي يتمرَّغ في رماد الكآبة؛ باتت تسكنني. قالوا إنَّ النَّارَ ستطهِّر جسدها، وكانت في قمة تلظيها تضحكُ وهي تمسك بيدي وتسحبني لنرقص تحت زخات المطر كما كنا نفعل في طفولتنا الباكرة. أبنوسة صقلتها أشعة شمس استوائية. تعرف كيف تجلي غيوم الجمال المسكون بروح الأسلاف. أياد سماوية سكبت حبها قطرة؛ قطرة في فؤادي العطش وأنبتت الأحلام، وقبل أن تزهر قطفتها يقظة. داهمني طيفها بمجرد دخولي في الصلاةِ، ولا أدري هل كان الشيطان يتلاعب بي أم أنني رأيتها واقفة بجواري في صف الصلاة؟
لم أستعِذ منه، تركته يغويني حتى أخرجني من نسكي؛ لا بد أنني قطعتُ صلاتي؛ والتفت ناحيتها وفضلت أحدق فيها وهي خاشعة تتلو صلواتها بسكينة؛ وخُيّل إليّ أنني رأيتها تبتسم لي ثم تصعد ابتساماتها كدعوات صادقة. حتى قبل دخولي في الصلاة بلحظات. كانت في دفتر الذهن مجرد قصاصات ذكرى لمن ودّعوا أرصفة الحياة الباردة المتّسخة بلا دموع؛ ولا أدري لماذا عدت أقلّب دفاتر الماضي في هذا اليوم بالذات. ربما كان الجو العكر هو السبب وليس الشيطان القابع بداخلي.
ذلك الصباح، والريح تمشّط ضفائر الغيوم بأصابع أفريقية خشنة والرذاذ يتقاطر خيوطاً من جبين السماء، والقدر المستلّ من جعبة اللوح المسطور مشدود على وتر الزمن يتأهب للانطلاق. في ذلك الصباح بعدما تعبنا من الرقص تحت المطر الذي بدأت زخاته تشتد، احتمينا بشجرة التوت المعمرة عند البئر القديمة. يومها أخبرتني بحقيقة الشيطان الذي أتعبد الإله خلفه من قبل أن تعرف بنات إبليس طريقها إلى فراشي. قالت إن الشيخ أتاها في ليلة شتوية كهذه، وكان حسب ما فهمت منها يتوكأ نزق الصبا وعيناه تومضان مثل جمرتين مهملتين وقد أطلقت شرارتها قسوة شيطانية عابرة. نظر إليها بعينين غائرتين تشتهيان الطفو فوق طبقات الشوق المكبوت. قال لها لاهثاً وقد سالت من محجريه خيالات فاحشة:
ــ نتزوج عرفي في السر وأطهرك من كل الذنوب.
سكتت وقد فهم سكوتها وأحسه بقلبه الخاشع لإله الرغبة وقتها؛ بلع ريقه وبلل شفتيه بلسان ثعبان يتحسّس مواطن اللدغ (يمكنني تدبّر أمر زواج مسيار، عفواً أقصد مسفار). كاد يسقط عندما ضحكت، لملم بقايا هيبته المتناثرة وتسنّد على جدار الباب الموارب. أقسمت لي أنها رأت ذئباً عندما ابتسم وقال:
ــ سمّه ما شئت، المهم أن يجمعنا سقف واحد.
موظف البنك كان مرابياً ومرتشياً، خيّرها بين أمرين قال يمكنه تدبّر أمر القرض ولكن عليها أن ترهن جسدها عنده، ومع كل شيك قابل للسداد سيأخذ نصيبه من لحمها نيئاً. وحتى يقنعها بعرضه السخي قال وابتسامة سمجة ترتسم على زواية فمه:
ــ يمكنني تمديد مدة العقد لعشر سنوات ومن دون فوائد حتى.
كان الجزار حاسماً كمدية. قطع من لحم الفخذ المعلّق أمامه ورماها لها ونظره سكين حاد يغوص في خيالات فاحشة:
ــ سأبني لك داراً في المدينة بعيداً من أهل القرية ولسانهم الزفر. أزورك في الأسبوع مرة واحدة ومن يتفوّه منهم بكلمة، أقسم لك سأقطع لسانه.
كانوا يرغبون فيها بالحرام الذي أحلّوه. أما هي، فقد أدمنت العشق الحلال الذي حرّمه المجتمع. كانت تعشقه بجنون وتعلم أن لونها الأبنوسي لن يكون منسجماً مع ألوان اللوحة الزيتية التي رسمها المجتمع بريشة النقاء العرقي المغموسة في وعاء الدم الواحد. قالوا إن سلوكها المعوج خرب شبان القرية، ولن يقفوا مكتوفي الأيدي حتى تنتقل العدوى إلى الفتيات. استشعرت النساء خطراً ما، نبتت لهن شوارب، تحدثن بصوت ذكوري ربما كن يخبّئنه في جيناتهن.
قُلْنَ:
ــ نطردها من القرية في الحال. ثلاث نسوة وقفن وأشعلن النار. قُلن بصوت جهوري مستلف:
ــ لا. سيلاحقونها إلى حيث تذهب. نعرف أساليب الرجال.
كنّ مصمّمات على حرق الفتنة وليس نفيها أو وأدها.
وكانت تسمع كل ذلك وتبتسم وهي تنتظرني أن أتفوّه، أن أعبّر بإيماءة حتى. وأنا صنم ينظر إلى الفراغ مرةً، ومرة لأبي الشيخ الذي لمحته في تلك الليلة الشتوية يتسلّل خلسة إلى دارها.
سلّم أبي منهياً صلاته ورفع يديه إلى السماء وأخذ يدعو ويتضرع. خلتها تسقط على الأرض وتستلقي على قفاها من الضحك. برهة وانطلقت العاصفة الرملية ودفنتنا بالحياة.

8- أيمن هاشم سيد أحمد: أُذُن فِينْسَنْتْ فَان خُوخ
قال فينسنت: بإمكاني إهداؤك أذني. ثم أخذ موس الحلاقة وقطع ذؤابة أذنه، أو قطعها كلّها ــ يا للثور المسكين ــ لابد أن الأمر كان مؤلماً، وسخرية غوغان ستكون أشد، لكن ماذا لو كان من قطعها هو غوغان بعدما طرح فينسنت أرضاً وهزمه كما كان يهزمه في الحصول على عشيقة، أو ربما بسبب تطرّفه قطعها كلها. قد يكون مَن لفّق كل هذه القصة صديقه الذي ضايقته نوبات الفزع. لف فينسنت فان خوخ أذنه في كيس أو حشرها في علبة أعواد ثقاب ــ هي الآن شهيدة حب ــ ثم أرسلها إلى المبغى، للفتاة التي أحبها. كانت قد أبدت له إعجابها بأذنه الصغيرة من قبل فردّت بسذاجة: «شكراً». رفعتها لتطابقها مع أذنها لتعرف: هل كانت أذنه اليمنى أم اليسرى، ثم ابتسمت قائلة:
ــ إنها جميلة.
ضغطت عليها لتتأكد أنها حقيقية وتمسح بقع الدم الصغيرة منها، ثم همست لها ببعض الكلمات، التي لم نتأكد منها بعد لأنّ أبواب المبغى ستغلق، وعليها حمل هديتها تلك بهدوء خوفَ أن يبصرها بعض الزبائن، فيفسدون الأمر عليها. دسّتها في حمّالة الصدر ربما أو في مكان ما أكثر لطفاً يليق بأذن ستسمع خفقات قلبها. كان فينسنت قد قطعها بعشوائية، لكن أتراه تحسّس موضعها، فلطالما كان صراخ والديه قبل الطلاق يسبّب له نوبات ذعر حادة. كانت حمراء وصغيرة وربما كان فيها جزء من شعر ذقنه الأحمر. بدت لدنة ومحتفظة بمرونة موحية بالقشعريرة، جعلتها تفكر كم مرة سمع فينسنت كلاماً معسولاً بهذا العضو الذي بين يديها، وكم مرة سمع أنين امرأة عند ممارسة الجنس، وكم من القصائد تلا على غيرها، شعرت بها كأنها متّصلة برقبة فينسنت وفكّه المليء بشعيرات الذقن الحمراء. فيما هي تتخيل كل ذلك، أحسّت بقبلة على شحمة أذنها. كان ذلك حينما جاءها فينسنت الملحاح كطفل ليقابلها، وقد حظي باستقبال العائلة وطلب رؤيتها. كان ما سمعته وهي في الطابق العلوي صراخهم فقط ووالدها يمسك بالشمعة التي كادت تنطفئ لأن فينسنت وضع يده عليها حتى فقد وعيه. صوتها وهي تهبط على درجات السلم بحذائها ذي الكعب المسماري العالي وهي رافعة فستانها. هو الصوت الوحيد الذي ميّزته أذن فينسنت الملقى على البلاط الخشبي البارد. أخفت الفتاة الأذن بحرص تحت معطفها الواقي من المطر، فقد بدت أكثر دفئاً وكانت تسمع دقات قلبها وظلت ساكنة تتوسد الليل البهيم الذي لطالما أرّق فينسنت فان خوخ. ازدادت حدة المطر، وكان الليل قد داهم كل شيء، وتبلّل شعرها المكشوف. كان بمقدور الأذن سماع صوت المذياع من سيارة الأجرة، معلناً نجاح دول الحلفاء في إحدى الجبهات، أوروبا مريضة جداً هذه الأيام وسماؤها مصابة بالغارات المفاجئة، تطلّعت بنظرها إلى سماء الساحل الشمالي، وبدت كأنها مشتعلة وكأن فينسنت ما زال ممسكاً بالنجوم المتّقدة. ثم علمت أن النساء الحوامل والأشخاص المكتئبين والأزواج الجدد ينبغي أن يأووا إلى فراشهم مبكراً. كلٌّ يخلد لطقوسه التافهة ليزيلها ضباب يوم آخر. ابتعدت عن الطريق الذي ما زال به بعض الضجيج، خشية أن تؤذي الضوضاء تلك الأذن المحبوبة، ولكن كيف سيسمع فينسنت خبر تفوّق الحلفاء ـــ آه هو لا يكترث ـــ قد يكون مكانها مضمداً بالقماش الذي يمسح به لوحاته، ومعقّمة بكحول قديم تركه غوغان. عبر الطريق إلى المنزل، سمعت شجار عاشقين من آخر الرواق. كان عتاب العاشق ظريفاً، فقد أمسك بأذن عشيقته كطفلة معاقَبة، وربما هذا يؤذي شعور الهدية، قالت: يا للملاعين! بدا الشاب العاشق ذو الذقن الحمراء كأنه فان خوخ والتفت ناحيتها، ولم تشعر أن خطواتها لم تكن تبتعد، بل كانت تقترب لتتفحص ملامحهما وغمغمت، وكانت تفكر في الجميع فنانين أو شعراء، مجانين أو عشاقاً، كل من يكابد ويشقى وكل من ذرف الدمع وكل من ساورته نشوة حين سماعه أغنية في الأزقة المظلمة التي لا تصلح لنمو الورد، ثم أزعجتها حشرة صغيرة أبدت معها إشارة لا مبالاة للعاشقين وللحشرة. تجنّبت الباب الأمامي ودخلت عبر باب القبو الذي تراكم الطين عنده، ثم انسلت إلى الداخل ووضعت حقيبتها على الطاولة. وبفزع أخرجت الأذن الدافئة وأضاءت المصباح وخلعت قميصها، تاركة للأذن العارية فرصة تأمل ذلك الجسد المصقول وسماع حفيف خلع حمالة الصدر. بدا الصوت سماوياً. تعودت الأذن دفء الغرفة وصوت المطر الذي بدأ بالهطول وقالت:
- غرفتك جميلة. أجابتها بلا مبالاة، لم يسبق لي ممارسة الحب مع أحد في العلية.
ثم أمسكت بالأذن ووضعتها في أكثر الأماكن استحقاقاً للطعن، فبدت النبضات تأوّهات جميلة حتى همدت في نومة أنيقة. في الصباح، كانت زهرة الشمس الموضوعة على أصيص كأنها تصلي صلاة شكر وبدأت الفتاة الممددة على السرير في التحرك الشهواني الكسول. راحت تتحسّس الأذن التي التأمت مكان أذنها ــ التي ربما ملت منها ليلة أمس ــ فأرادت أن تسمع الصباح بأذن فينسن، كما كان يوقع اسمه على لوحاته مخافة أن ينطق الفرنسيون اسم عائلته بشكل غير صحيح. تساءلت: ماذا كان سيسمع فينسنت في الصباح، وعندما كان يلوي رقبته ليطقطقها، هل يتحسّس أذنه بإهمال أم يمنحها حكة بسبب الوسادة الخشنة؟ أم كان يتوقع ويمنح أذنه حق توقع اسمها في الصباح ــ آه يا للقديس المسكين ــ ثم داعبت خصلات شعرها التي انسدلت معظمها في جانب الأذن الجميلة الجديدة. المسافة بالأميال من مرسم فينسنت – غرفته القديمة، لو كان بإمكان الأذن العودة عبر تلك المسافة من الغرفة التي لم يصعد إليها فينسنت لصارت مثل طائر دوري صغير ملون بعنف فينسنت. أسدلت الستارة على نافذتها الزجاجية، ثم لاح لها جانبها كأن هنالك أحداً آخر في الغرفة، ثم زجت النافذة بعنف بسبب خوفها. دخلت الحمام وهي تحمل الشرشف للتجفيف وتضعه على رأسها، ما إن وضعته على المسمار وانعكس جسمها على المرآة حتى قالت الأذن:
ــ أوه، يا للقدير. لكنها سمعتها بأذنها الأخرى، ثم قالت لهاك
ــ تأدّبي...
ثم رفعت ذراعها كاشفة عن إبطها ورشت المياه من الأعلى وغرقت الأذن بين الصابون والمياه. وما إن بدأت بتجفيف شعرها، حتى تحسّست بيديها باقي جسمها لتنقل صوت الأجزاء الأخرى وعبق بشرتها. ربما ستزور فينسنت لتُعيد إليه هديته الثرثارة أو تشكره أو تمنحه قبلة أو تخبره أن ذراعه أيضاً جميلة، لكنّ الضباب كثيف فجذبت الستائر، نظرت بتثاقل إلى المارة لعلها تشاهد فان خوخ المجنون وهو يضطرب في مشيته أو يتلفت ويلفه الضباب. همست لها الأذن برغبتها بالعودة إلى الفِراش ورقدت مواجهة إياها بعدما خلعتها مجدداً، فكرت في تركيب قرط، ثم بدرت منها ضحكة إغراء وتثاءبت بشكل عالٍ وفتحت قميصها القطني وضمت الأذن إلى صدرها في المنتصف تماماً، كان ثمة نبض رقيق، ثم أطفأت الإضاءة، بدا فكها البيضاوي شهياً لقبلة جانبية: ستكونين لي، لم نعرف من قالها أولاً، الأذن أم العشيقة. قربتها من شفتيها فقبلت شحمة الأذن حتى سرت رعدة محببة ثم همست لها بأحاديث كثيرة، تحفزت الشياطين التي راحت ترقص في جسدها ثم تدفّق الدم، وبحنو وضعتها بالقرب من أسفل بطنها، كانت تتوق إلى سماع صوت ترديد الوسادة للريح وصوت نزول الماء. وربما كلام فان خوخ المعسول القادم من عدة أميال. هنالك ضيف ينتظرك في الأسفل. وقبل أن تكمل والدتها جملتها، ارتدت فستانها ذا الفتحة عند الصدر، كانت الأذن تتوق إلى سماع صوت ركضهما بين السرير والباب، ثم على أماكن تخصّها، قبّلتها كطفل كما لو أنّ تأوّهات فينسنت وهو يمسك بالموس تصلها الآن.