ألف عام على رحيل أبي حيّان التوحيدي (٩٢٣-١٠٢٣م) الذي يمكننا اعتباره منقذاً ومجدداً للنثر العربي من الصياغات الركيكة و«الحلقة التافهة» بتعبير الناقد الفلسطيني الكبير إحسان عباس. حلقة تواترت على صناعتها أسماء كثيرة مثل الصاحب بن عباد، وابن العميد والقاضي الفاضل والعماد الأصفهاني والقاضي العمري، إلى ورثة الصنعة اللفظية الخاوية في العصر الحديث، لينبري صاحب «المقابسات» و«الإمتاع والمؤانسة» ليكسر هذه الحلقة ويعيد وصل تراث الجاحظ وابن المقفّع وإخوان الصفا، الجماعة التي اتُهمَ أبو حيان بالانضمام إليها، بالنثر الصافي الذي يحتمل المعاني الإنسانية والفلسفية العميقة، ويتلاقى مع معاصره النفري (ت ٩٦٥ م) رائد النثر الصوفي في رفد التراث العربي بكتابة سائلة مشحونة بتوهّج الفكرة، وجمالية العبارة. كتابة هي أشبه بقصيدة النثر العربية التي استلهم روادها الكثير من التوحيدي والنفري وغيرهما: عاش أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء في عصر مضطرب كانت الحركات المتمردة والدعوات الباطنية المنظمة قد بدأت فيه بقضم الخلافة العباسية من حدودها القصية. واستطاع البويهيون أن يقوضوا السلطة المركزية في بغداد. أحس التوحيدي بكل هذا السيل المتدفق، فكان كالشجرة المتفردة التي لا تنحني للسيل، ولكنها لا تستطيع صدّه. أثناء نظره وتأملاته في أحوال ذلك الزمان واضطراباته، أعملَ كل عدّته النقدية، وكان هو وملهمه الجاحظ من أوائل العقول التفكيكية في الحضارة العربية والإسلامية، ممتلكاً قدرة هائلة على قراءة الناس وتكثيف العبارة ليحضر المعنى، لكن ليعيش كل غربة الانتليجنسيا أمام جهل العوام وتعصّبهم: أحرق التوحيدي كتبه في نوبة من الغضب على من يعتبر أن انقطاعه إليهم يفوّت عليه مجالس أهل الحكمة. كما أنه لم يسلم من سهام فقهاء «المؤسسة» حين اعتبروه عضواً في جماعة باطنية فكانت مقولة ابن الجوزي الشهيرة: «زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي والتوحيدي والمعرّي وشرّهم التوحيدي لأنهما صرّحا ولم يصرّح». نستعيد في «كلمات» شذرات من أبي حيان كان قد نسقها نثراً علي محمد إسبر بصياغة بديعة في كتيّب صدر عن دار منشورات «فكر» عام ٢٠١٢ بعنوان «أصناف الحياة: مختارات أبي حيان التوحيدي»، إضافة إلى مقتطفات من كتبه وما رواه المؤرخون عنه.



كلام وحسرة
كيف أتكلّم والفؤاد سقيم
أَم كيف أترنّم والخاطر عقيم؟
أَم كيف أثق بما نُمّقَ من الخبر؟
وقد كذّبني ما حُقِّقَ بالعيان؟
وما يجدي الرجاء الكذوبُ مع الخطب المتفاقم.

عجز
الهوى مركبي،
والهدى مطلبي
فلا أنا أنزل عن مركبي،
ولا أنا أصِل إلى مطلبي.
الحاجة إلى الجهل
إذا كان العقل تسعة أجزاء، أحتاج إلى جزء من الجهل ليقدم على الأمور:
فإنّ العقل أبداً متوانٍ، متوقّف، مترقّب، متخوّف.

لــــــو
- ما أحسن هذه الصحراء؟
- لو لم تحضرها أنت!

مفارقة جمالية
الدخان رماد لطيف
والرماد دخان كثيف.

مائدة على مقبرة
إن إقبالك بالحديث على من لا يفهم عنك، بمنزلة من وضع مائدة على مقبرة.

الصديق
الصديق اليوم قليل، والنصح أقلّ.
ولن يرتبط الصديق إذا وُجد بمثل الثقة به، والأخذ بهديه، والمصير إلى رأيه، والكون معه في سرّائه وضرّائه.
فمتى ظفرتَ بهذا الموصوف، فاعلَمْ بأن جدك قد سعِد، ونجمك قد صعَد، وعدوّك قد بعد.
الصَديقُ آخَر هو أنت.



غيب ورمز
أما ترى هذه العجائب
كيف تدقّ عن اللغات المرموقة المنمّقة؟
أما تراني فيها
وكأنّي من أهلها ولستُ من أهلها؟
أما تراني غريباً فيها
وكأنّي مستأنس بها؟
الويل لي
إن كنتُ في ما أقوله غريباً منه،
والويلُ لك
إن كنتَ في ما تسمعه بعيداً عنه.
القائل إذا لم يكن واجداً لما يقوله
لم يكن السامع بما يسمعه،
إنما هو قلبٌ يناجي قلباً.
■ ■ ■
غيبُ هذا الحديث خافٍ،
والرمز عنه متجافٍ،
وإنما ندندن حول هذه المعاني.

طباع وخداع
(...) إن حزنتُ حزنتُ طباعاً، وإن فرحتُ فرحتُ خداعاً. إن خالطتُ ذممتُ الناس، وإن اعتزلتُ اجتلبتُ الوسواس. وإن بحثتُ دُهشت، وإن قلّدت استوحَشْت. هذا مسائي وصباحي، وعليه غدوّي ورواحي.

شاهد الرسم وشائع المجاز
فقل لي الآن،
كيف أرجو شفاء ما بي؟
اتّصَلَت الحروف بالحروف
واشتبهت الصفات على الموصوف.
اسمعْ حديثي وأنا حاضر ببالك.
أنِّسني بحاضر البقاء
واعتقني بعشق التحيّر.
كلّي عند الغاية مسبيّ مرميّ
وجميعي لدى النهاية منسيّ منفيّ،
فأين نصيبي لنفسي،
وأين نسبتي إلى بني جنسي؟
وأين بياني وتبيّني
وأين كوني وعوني؟
حدّثوني عن معنى يزعجني
ومع إزعاجه يعجبني.
أمرٌ خارج عن العادة،
غريبٌ في التعارف، ومُنكرٌ عند الجمهور.
وأعود فأقول: الويل لي
إن أعرضتُ عن الكنْه،
مشرئباً إلى الطمع في ظهوره لي،
بل الويل لي،
إن رُمتهُ بشاهد الرسم وشائع المجاز.

وجد وهجر
سبحان من لم يغنك عنّا، حتى سلّانا عنك،
ولا شغلك بغيرنا حتّى عوّضنا منك
ولا هوّن عليك الوجد، حتى خفّف عنّا الموجدة عليك،
ولا حظّر عليك وصلنا حتى أباح لنا هجرك،
ولا سهّل عندك الرزء بنا، حتى رفع عنّا المصيبة فيك.

غريب
يا هذا أين أنت عن غريبٍ طالت غربته في وطنه،
وقلَّ حظّه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟
قد عَلاهُ الشُّحوب وهو في كِنّْ،
وغلبه الحُزن حتى صار كأنه شِنّ.
إن نَطَقَ نطق حزنانَ منقطعاً، وإن سَكَتَ سكت حيرانَ مرتدعاً.
وإن قَرُبَ قربَ خاضعاً، وإن بَعُدَ بعدَ خاشعاً،
وإن ظَهَرَ ظهرَ ذليلاً، وإن توارى عليلاً،
وإن طَلَبَ طلبَ واليأسُ غالبٌ عليه، وإن أمسَكَ أمسك والبلاءُ قاصدٌ إليه.
وإن أصبَحَ أصبح حائل اللون من وساوس الفكر،
وإن أمسَى أمسى مُنْتَهَبَ السرِّ من هَواتِكْ السّتْر؛
وإن قالَ قال هائباً، وإن سكتَ سكتَ خائباً؛
قد أكلهُ الخمول، ومَصّهُ الذبول، وحالفه النّحول،
لا يتمنى إلا على بعض بني جِنسِهِ، حتى يُفْضي إليه بكامِناتِ نفسه، ويتعلّل برؤية طلعته، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته.
وقد قيل: الغريب من جَفاهُ الحبيب.
وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب،
بل الغريب من تغافل عنه الرّقيب...
بل الغريب من نُودَيَ من قريب،
بل الغريب من في غربته غريب،
بل الغريب من ليس له نسيب،
بل الغريب من ليس له من الحقِّ نصيب. الغريبُ من غَرُبتْ شمس جماله، واغتَرَبَ عن حبيبه وعُذّاله،
وأغرَبَ في أقوالِهِ وأفعاله، وغرَّبَ في إدباره وإقباله...
الغريب من نَطَقَ وصفُهُ بالمحنةِ بعد بالمحنة...
أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البُعَداءِ من كان بعيداً في محل قربه.
الغريب من إذا ذَكَرَ الحقَّ هُجِرْ، وإذا دعا إلى الحق زُجِرْ.
الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله.
الغريب من إذا أقبلَ لم يُوَسَّع له، وإذا أعرضَ لم يُسْئَلْ عنه.
الغريب من إذا سَألَ لم يُعطَ، وإن سَكَتَ لم يُبدأ...
الغريب من إذا نادى لم يُجَب، وإن هادى لم يُحبّ.
الغريب في الجملة كُلُّهُ حُرقه، وبعضهُ فُرقه، وليله أَسَفْ، ونهارهُ لَهَفْ، وغداؤه حَزَنْ، وعشاؤه شَجَنْ، وآراؤه ظِنَنْ، وجميعه فِتَنْ، ومفرَقُهُ مِحَنْ، وسِرُّهُ عَلَنْ، وخوفه وَطَـنْ.
الغريب من إذا دعا لم يُجَب، وإذا هابَ لم يُهب... الغريب من فَجْعَتُهُ مُحْكَمَة، ولوعته مُضرِمة.
الغريب من لِبْسَتُهُ خِرْقة، وأكْلتُهُ سِلْقه، وهجْعَتُهُ خَفْقة.

سَوق العبار
يا هذا!
دعْ سكران الهوى حتى يتهادى في سكره،
ودع مقلّد الحال حتى يتمادى في نكره،
ودع مدبّر الخلق حتى يوصف بذكره.
ودع المحتاج حتى يموت على حاجته،
والمريض حتى يتناهى في دنفه،
والتلف حتّى يفضي إلى تلفه.
فليس إلى البغية سبيل، وإلى درك الرضا دليل.
للعقل صلف شديد فإذا قدته إلى التقليد جمح،
وللحس برق ظاهر إذا أشرت له إلى التسمّح ثاب وعاد وثبت واعتاد، والإنسان بينهما أسير،
إن أراد طاعتهما حادّاه وشاقّاه
فكيف يطيب عيش من يفيض صدره بهذه الحفائظ،
الحديث أطول من هذا،
ولكن في فمي ماء.
على أنّي سقت العبارة هكذا وهكذا شرقاً وغرباً، وجنوباً وشمالاً، وأرضاً وسماء،
فلم أدع للكتابة قوة إلا عصرتها عند العثور عليها،
ولا للتصريح علامة إلا ونصبتها حين وصلت إليها.
وإشفاقي على من لا يفهم لكدر طباعه، أو لبلادة فهمه، أو لغالب جهله، أو لعصبة تعتريه شديدة،
لأنه يفسد وقد قصدت صلاحه، وينوي وقد أردت فلاحه.

الأم والأب
فلم يكون الأب بهذه المنزلة دون الأم؟
الأم شأنها في الحس أعظم، وتدبيرها في المباشرة أعظم، وشفقتها بحسب قوتها أكثر. والأب هو الفاعل الحسّي أيضاً، ولكن لا مباشرة له متصلة، ولا ولاية متمادية، وإنما هو أول فقط. والأم حاملة واضعة، ومرضعة وفاطمة، وحاضنة ومربية، فالكلفة عليها أغلظ، وحسّها للولد آنف، وهو بها أشغف.

سؤال الماهية
ما الرأي؟ نهاية الفكر.
ما المعرفة؟ رأي غير زائل.
ما الوهم؟ الوقوف بين الطرفين لا يُدرى أيهما في القضية الصادقة.
ما الصورة؟ هي التي بها الشيء هو ما هو.
ما الحال؟ كيفية سريعة الزوال.
ما الحقد؟ هو غضب يبقى في النفس على وجه الدهر.
ما المحبة؟ قوة لا يضاهيها في ذاتها شيء.
ما الغناء؟ شعر ملحَّن داخل الإيقاع منعطف على طبيعة واحدة يرجع سالكه إليها.
ما الإيقاع؟ فعلٌ يكيل زمان الصوت بفواصل متناسبة، متشابهة، متعادلة.
ما اللحن؟ صوت بترجيع، خارج من غِلظ إلى حدّة، ومن حدّة إلى غِلظ، بفصول بيّنة للسمع، واضحة للطبع.
ما السماء؟ جوهر مركَّب مستدير، يتحرك حركة شوق ذاتية دائماً.

وجوه الحقّ
قال أفلاطون:
إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه،
بل أصاب منه كل إنسان جهة.
ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل وأخذ كل واحد منهم جارحة منه فجسّها في يده ومثلها في نفسه.
فأخبر الذي مس الرِّجل أن خلقة الفيل طويلة مستديرة شبيهة بأصل الشجرة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته تشبه الهضبة العالية والرابية المرتفعة،
وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره،
فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك،
وكل يكذب صاحبه، ويدعي عليه الخطأ والجهل، فيما يصفه من خلق الفيل،
فانظر إلى الصدق كيف جمعهم، وانظر إلى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حتى فرقهم.


شــــذرات
العالِم ينفع، وإن لم يعمل.
■ ■ ■
ليس يرى مجد الحكمة إلّا من كان بصر عينيه في قلبه، لا بصر قلبه في عينيه.
■ ■ ■
كلّ مضطر ليس محموداً، بل المحمود ما أمكن فيه الاختيار.
■ ■ ■
البياض يفرّق البصر لأنّه من جنس النار، والسواد يجمع البصر لأنّه من جنس الماء.
■ ■ ■
كلّ خيرٍ حسَن، وليس كلّ حسَن خير.
■ ■ ■
كل ما فعلَته النفس بالأدب، فعلَته الطبيعة بالعادة، وفعَلَه العقل بالتقبّل.
■ ■ ■
الغضب يتحرّك من داخل إلى خارج، والحزن يتحرّك من خارج إلى داخل.
■ ■ ■
معرفة الدوابّ أولادها بالرائحة، ومعرفة الطير أفراخها بالألوان، ومعرفة الناس للناس بالصورة.
■ ■ ■
كلّ عشقٍ شوق، وليس كلّ شوقٍ عشق.
# المرجع: محمد إسبر ــ «أصناف الحياة: مختارات أبي حيان التوحيدي» ــ عن دار منشورات «فكر» ــ ٢٠١٢

شكوى صوفي
أيها المحاور، والصديق المجاور، كيف أتكلم، والفؤاد هائم في كل واد، والخاطر خال من كل جاد وهاد، أم كيف أشكو والسر ظاهر باد، أم بأي شيء أتعلل وكل ما أجده مردد ومعاد، أم على من أعتمد، وكل أحد أراه فهو لي ضد ومعاد؛ أنفاسي محترقة بالحسرات، ودموعي مترقرقة يبن النغمات والزفرات، وكبدي مشتعلة على المناظر والهيئات، ويقظي جارية على الرسوم والعادات، وأحلامي عارية من كل ما له حاصل وثبات، ونفسي رهينة بالسيئات، مفتونة بالحسنات، بالسوانح والخطرات، مغبونة عن الحسنات والصالحات، والجهات دوني منسدة، والوجوه أمامي مسودة؛ إن قلت قيل هذا زور وبهتان، وإن أشرت قيل هذا غرور وعدوان، وإن سكت قيل هذا سهو ونسيان، فليت من ابتلاني بما لا طاقة لي به، رحمني مما لا غنى لي عنه، أوليت من طردني عن بابه، أهلني لعتابه، وأوليت من جرعني مر فراقه، أخطر على بالي حلاوة لقائه، أوليت من غمسني في بحر البلوى، طرحني إلى ساحل المنى، أو ليت من حطني عن درجة المخدومين، رقاني إلى مقامات الخدَم، أو ليت من حظر عليّ التبسّط عنده، لم يحظر عليّ التبصص له. أو ليت من قطع عني عادتي منه، لم يملّك مقادتي غيره؛ أو ليت من منعني بردّ الرضا، لم يشوني بجمر الغضا؛ أو ليت من تركني هكذا سدى، لم يفضحني في مجالس العدى.
# من كتاب «الإشارات الإلهية» لأبي حيان التوحيدي، ٢١٤-٢١٥

مقابلة بين النظم والنثر
النظم أدلّ على الطبيعة، لأنّ النظم من حيّز التركيب. والنثر أدلّ على العقل، لأن النثر من حيّز البساطة. وإنما تقبّلنا المنظوم بأكثر مما تقبلنا المنثور، لأنّا بالطبيعة أكثر منّا بالعقل. والوزن معشوق الطبيعة والحسّ، ولذلك يُغتفر له ما يعرض من الاستكراه في اللفظ. والعقل يطلب المعنى فلذلك لا خطر للّفظ عنده، وإن كان متشوّقاً معشوقاً، والدليل على أنّ المعنى| مطلوب النفس، دون اللفظ الموشّح بالوزن، المحمول على الضرورة، أن المعنى متى صودفَ بالسانح والخاطر وتوفّى الحكم، لم يَبْل بما يفوته من اللفظ الذي هو كاللباس والمعرض والإناء والظرف. لكنّ العقل مع هذا، يتحيّز لفظاً بعد لفظ، ويعشق صورة دون صورة، ويأنس بوزن دون وزن، ولهذا يشّقق الكلام بين ضروب النثر وأصناف الوزن.
وليس هذا للطبيعة، بل الذي يستند إليها من الكلام ما كان حلواً في السمع، خفيفاً على القلب، بينه وبين الحق صلة، وبين الصواب وبينه آصرة. وحكمها مخطوطٌ بإملاء النفس، كما أن قبول النفس راجعٌ إلى تصويب العقل.
ومع هذا ففي النثر ظلٌ من النظم، ولولا ذلك ما خفّ ولا حلا، ولا طاب ولا تحلّى. وفي النظم ظِلّ من النثر، ولولا ذلك ما تميّزت أشكاله، ولا عذبَت موارده ومصادره، ولا بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وصائله وعلائقه.
# المقابسة الحادية والستين من كتاب «المقابسات» لأبي حيان التوحيدي


عن حرق الكتب جواب على رسالة القاضي سهل بن محمد
ثم إني أقول: إن كان - أيّدك الله - قد نقب خفّك ما سمعت، فقد أدمى أظلّي (باطن قدمي) ما فعلت، فليهُن عليك ذلك، فما انبريت له، ولا اجترأت عليه، حتى استخرتُ الله عزّ وجَلّ فيه أياماً وليالي، وحتّى أوحى إليّ في المنام بما بعث راقد العزم، وأجدَّ فاتر النيّة، وأحيا ميت الرأي، وحثّ على تنفيذ ما وقع في الروع، وتريّع في الخاطر...
ثم اعلم، علّمكَ الله الخير، أنّ هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأما ما كان سرّاً فلم أجِد له من يتحلّى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية، فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أنّي جمعت أكثرها للناس، ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم فحرمت ذلك كلّه، ولا شكّ في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي، وربطه بأمري، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجّة عليّ لا لي، وممّا شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه، أنّي فقدت ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشقّ عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنّسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفّحوها، ويتراءون نقضي وعيبي من أجلها فإن قلت: ولم تسمهم بسوء الظن، وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم.
# من معجم «الأدباء» لياقوت الحموي، فصل ١٥


سيرة في سطور
لم يختلف مؤرخو العرب على علم من أعلامهم اختلافهم في أبي حيان التوحيدي. صوّره المؤرخون من ناحية العناصر بين فارسي وعربي، ومن حيث الموطن بين بغدادي وواسطي، ومن حيث العقيدة بين مؤمن صادق وباطني ملحد، ومن حيث الطريقة بين صوفي عارف وأفّاق محترف، ومن حيث معارفه بين فيلسوف ومتكلّم وفقيه ومحدّث ونحوي وشاعر، أو روح قلقة وثائرة تحمل «وعياً اجتماعياً غير ناضج وغير مبني على فلسفة كاملة في الحياة» كما وصفه الناقد إحسان عباس. وبمثل ذلك يجري الخلاف في عام مولده ووفاته: لكن الثابت لدى المؤرخين أن الأديب الذي ولد نحو عام ٩٢٣م عاش طفولة صعبة في كنف عمّه الذي كان يقسو عليه كثيراً بعدما هجره أبوه، وأنه عاصر القرن الرابع الهجري بكل اضطراباته الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي بدأت مع تولي المكتفي بالله الخلافة في عام 259هـ وما أبداه من لين أوصل الدولة العباسية إلى التفكك، بعد مدة مضطربة من حكم أبيه (المعتضد بالله) تميزت بالفتن الطائفية والمذهبية. أول ما احترف أبو حيان حرفة الوراقة التي جعلته مولعاً بالكتب والمؤلفات ثم تلقى علومه على يد أساتذة من مذاهب دينية ومشارب فكرية مختلفة وهو ما يفسر ديالكتيك التناقض والمقابلة والتفكيك في مؤلفاته كلها، كأبي سعيد السيرافي في النحو، وعلي بن عيسي الرماني المعتزلي في علم الكلام والمنطق. كما درس الفقه الشافعي على يد كبار قضاة هذا المذهب، والفلسفة والمنطق على يد أبي زكريا يحيى بن عدي النصراني، والحكمة والمنطق على يد أبي سليمان محمد بن بهرام السجستاني، وهما من تلاميذ الفارابي، وكان له أصدقاء من كبار مفكري الشيعة حتى حسبه بعض المحدثين واحداً من إخوان الصفا. نعته ياقوت الحموي بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء، وعاش كل غربة المثقف في عصره وبين أهله، ومات فقيراً في شيراز سنة ١٠٢٣ م بعدما أحرق كتبه كلها التي لم ينجُ منها إلا ما ندر، وهي ذخائر أغنت المكتبة العربية مثل «الإشارات الإلهية» و«رسالة الصداقة والصديق» و«الإمتاع والمؤانسة» و«المقابسات» و«البصائر والذخائر» و«الرسالة البغدادية». واشتهرت عبارته الشهيرة التي عرّفت الإنسان ككائن ثقافي: إن الإنسان أشكلَ عليه الإنسان.