ينجح الكاتب المصري مهدي مبارك في أن يكون مخلصاً لقصته ووفياً لتفاصيلها، إذا شاء نقلها من فضاء التداول الشفهي وزجّها في إطار التدوين. في كتابه الصادر حديثاً «الرفيق مارادونا مسيح نابولي: أيامه مع المافيا... وأيامي مع الله والبيتزا» (دار صفصافة)، سردُ متماسكٌ، علماً أن الكاتب لم يتوغّل في جغرافيا الأدب ولا في موضوعاته. رحلةٌ أقرب إلى المغامرة خاضها مبارك وكتبها كقصة صحافية طويلة، تبدأ عند الوجه المظلم والمخيف لمدينة نابولي. وإذ بنا نكتشف، عند انتهائها، أنّ المدينة ذاتها، نابولي، المطلّة على البحر، زاخرة بالقداسة و«القديسين». لعلّ التمثيل الأبرز لهذا التناقض يتجسّد في مارادونا، فالأخير بطل وضحية، نجم عالمي وشيوعيّ، كاثوليكي وماجن، وبالتالي، لا يمكن التعرّف إلى مارادونا بمنأى من نابولي، مثلما لا يمكن الاستعانة بغير مارادونا كصورة دالّة على نابولي. يدخل مهدي مبارك إلى صلب هذه الثنائية.

هو القادم أيضاً من مدينةٍ تشبه نابولي في الرطوبة، والفقر، والعراقة؛ الإسكندرية، حيث ناس هذه المدينة يشبهون سكان بوينس آيرس ونابولي كذلك. أمام هذا المثلث الذي ستتفرّع عنه خطوطٌ سردية، تبقى القصّة واحدة: رحلة مهدي مبارك إلى نابولي، حيث العوالم السفلية مسكوت عنها، والعوالم الظاهرة، مثل مارادونا والبيتزا والأزقة الضيقة، ثيمات «أدبية» لا ضير في إعادة الحديث أو الكتابة عنها، فالتأويل، وخصوصاً إذا كان مصحوباً بتجربة العيش، يضيف معاني جديدة على موضوعه. والحال أنّ حفاظ مهدي مبارك على متانة قصته/ رحلته يعود إلى خفة الصياغة ورشاقة الانتقال من الحدث نفسه إلى الهامش الذي يحيط به. فالهمّ الأساس هو الإحاطة بالمشهدية، وعدم إغفال عناصرها، من دون الانزلاق إلى متاهة «استقراء» الظواهر ومعالجتها، ولا اللغو الناجم عن الإفراط العبثي في السرد.
صوت السارد مرتفع. نقرأ مهدي مبارك كما لو أننا نجلس معه. حكّاءٌ يخبرنا عن رحلته إلى نابولي. صيّاد يرصد علامات المدينة: البيتزا، المباني، القمامة، الشخصية النابوليتانية، المافيا. نقرأه سائحاً فضوليّاً يبحث عن بطله، عن رمز المدينة المقدس: دييغو مارادونا. فالكتابة عند مبارك تسلك الطريق السريع، لا وجود لمطبّات بلاغية أو وعورة إنشائية، إنّما استرسال مُنساب وإيقاع سريع. هكذا لا يعود هناك فرق بين تلاوة القصة، قصته، شفهياً أو نقلها إلى مصنع الكتابة، فالمرسِل واحد وكذلك المتلقّي.
يصل الكاتب إلى نابولي من دون أن يبوح لنا عن غرض زيارته. المدينة متوحّشة، لا ترحّب بالغرباء، وانطباع مبارك عنها يراوح بين الكره والاشمئزاز، فارتأى أنه من الأفضل له الرحيل، ولكن «لا شيء اسمه مواعيد في نابولي، الباصات لا تأتي، ولا أحد يعرف متى ستأتي». تأخر الباص سيدفعه للبقاء في نابولي. ستبدأ عندها رحلته في المدينة التي سرعان ما انتبه أنها من المدن المفضّلة لديه، فالمدن الكريهة «تروق لي أكثر من غيرها، لن تجد شخصاً يقول لك إنه يكره أوسلو، رغم أنها الأكثر مللاً بين مدن العالم».
نابولي أو المدينة المتهوّرة التي لا تزال تعترف بسيادتها الخاصة وعدم انتمائها إلى إيطاليا، تعشق المجانين والمتهورين مثلها. نطلّ مع مهدي مبارك على تاريخ نابولي الشامخ والعنيد، ونتعرف إلى حاضرها القابع تحت سطوة المافيا التي استحوذت على أحوالها منذ نشأتها في القرن الثامن عشر. وفي ماضيها وحاضرها ثابتتان اثنتان: مارادونا الذي صار واحداً من آلهتها، والبيتزا التي نشأت مع البائعين المتجولين، إذ كانوا يبيعونها لعمال المرافئ؛ البيتزا التي تتفوّق على كل مدن إيطاليا، بما فيها روما. ونابولي، المدينة التي لم تقطع حبل السرة مع ثقافتها وإرثها، وترفض الانصهار مع «شمال» البلاد بكل عاداته وتقاليده، تجذب أصحاب نزعات التمرد، والساخطين على الهيمنة وعلى الأقوياء، إلى درجة تماهي واحدهم معها. دييغو مارادونا كان واحداً من هؤلاء. اللاعب الذي كان «حرّيفاً وأرعن تعمّد إهانة ملك إسبانيا خوان كارلوس»، الذي لم ترق له مدينة برشلونة بكل ما فيها، من عمارة، وذائقة، ونمط حياة. خطيئته «الأصلية»، تعاطي المخدرات، ارتكبها هناك. في برشلونة، أصيب بمرض التهاب في الكبد، تعرض لكسر في قدمه، وتعرّف إلى كيفية حياكة المؤامرات والدسائس، إذ راح في برشلونة ضحية لهذه المؤامرات للمرة الأولى، لينتهي مشواره الكروي بكونه ضحية مؤامرة إيطالية، تلتها أخرى أميركية كانت قاضية، بعدما أسهمت في القضاء على مشواره الكروي.
بطل وضحية، نجم عالمي وشيوعيّ، كاثوليكي وماجن!


كان مارادونا يشبه نابولي وأهلها في تمرّده، وعاطفته، ونظرة الآخرين إليه بأنه من «الأقلّ شأناً»، ومثلما حوّل هدفه المسجل «بيد الله» على فريق إنكلترا إلى انتقام لضحايا حرب جزر الفوكلاند، وإلى موقفٍ يتعمّد استفزاز استعلاء بريطانيا وهيمنتها، أراد مارادونا تأدية دورٍ شبيهٍ مع نابولي، على إثر انتقاله للفريق بعد خروجه من برشلونة. يسرد مهدي مبارك هذه المحطات ويوثقها. يقوم بعملية تأطير غير ممنهجة، فالكتابة هذه لا تبتغي التأريخ الصارم، وغايتها ليست التحقيب أو اعتبارها مرجعاً، إذ جلّ ما تبتغيه هو لملمة العناصر لإتمام الحكاية. على هذا النحو، نتعرف إلى أخبار مارادونا، وأحوال نابولي من معاينة السارد لإشارات المدينة، وعبر اقتفائه أثر بطله. نقرأ، مع السارد، العلامات الواضحة للمدينة، من جداريات، وحالة الجدران وطبيعة الشوارع، وأشكال التماثيل ونوع التمائم، فنترجمها ليتّضح لنا المشهد.
ثم، نتعرف إلى مارادونا عبر شهادات شخوص نابولي الذين التقاهم مهدي مبارك وسألهم عنه. «مارادونا؟ تقصد الإله؟» تسأله سيدة عجوز، فيما رسمة على الحائط يظهر فيها مارادونا الذي «تحوّل إلى قديس، تحمله العذراء بين يديها كأنه مسيح نابولي العصيّ على النسيان».
لكن مهدي مبارك لم يكتشف شيئاً لم يسمع عنه من قبل، أو لم يكن على علم بأمره. هو كان يعرف سطوة مارادونا على نابولي، ومدى تأثيره في الوجدان الشعبي. كما أنه منذ البدء، لم يخفِ عشقه لمارادونا و«للثقافة المارادونية»، القائمة على تمجيد الهامشي، والإتيان من القعر، التي يتماهى معها. لم يكن تأخُّر الباص سبب بقاء مهدي مبارك في نابولي بل كان مارادونا، وسرعان ما سينتبه القارئ إلى ذلك. في هذه الأثناء، إنّ الكتب التي تقوم على قصصٍ واقعية حيث يتداخل الشخصي مع العام، من دون أن يتحوّل هذا العموميّ، أي الخارجي، إلى شخصيّ يمتلكه الكاتب إلى حدّ الانتفاخ فيه، بل عبر رسم خطوط تحدّ بينهما بقدر ما تتداخل، مثلما جاءت تجربة مهدي مبارك عليه، مطلوبة في المكتبة العربية.