لقد تأثر أدب أميركا اللاتينية بالاستعمار، لكنه لم يذهب باتجاه السياسة المباشرة، وظلّ يتأمل الوجود ومعنى أن تكون في هذا العالم من وجهة نظر الإنسان المستعمر والمضطهد. لم ينس العالم رائعة ماركيز «مئة عام من العزلة» التي ابتدعها من خياله لتوحي بالخروج عن الإطار الجغرافي أثناء الاستعمار. هكذا كانت الواقعية السحرية التي مزجت الخيال والسحر والشعر بهمّ واقعي، لتترك للقارئ مهمة البحث عنه وربطه بما حدث في تلك القارة على أيدي الإمبريالية الاستعمارية، تماماً كما وثّقت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي، تاريخ تشيلي عبر أربعة أجيال من النساء في أجواء من السحر والخيال.

وفي رواية الأرجنتيني خوان خوسيه ساير «المولود من ذي قبل» التي ترجمها للمرة الأولى إلى العربية المصري محمد الفولي، وصدرت أخيراً عن «دار الكرمة»، نكتشف «الدرة المنسية بالعربية» كما أشار المترجم، معتبراً الكاتب «أبرز كاتب أرجنتيني بعد بورخيس». وقد ترجمت هذه الرواية إلى لغات عدة.
هذه الرواية تتميز بأنها تذهب عميقاً إلى تلك الحياة المنسية للسكان الأصليين الذين سمّاهم الكاتب «الهنود الحمر» لأنّ الرواية حدثت أثناء أولى البعثات التي سعت إلى الوصول إلى الهند عبر الغرب، فتبيّنت أنها وطئت أرضاً جديدة، فأطلق على ساكنيها «الهنود». هي تنظر إلى العالم عبر عالمهم، وترى كل ذلك العالم الخارجي بمن فيه الغزاة كما يراه هذا الهندي الأصلي. يصبح الكاتب شاهداً ومتأثراً بتلك الحياة كأنه واحد منهم، لا كي يروي ما شاهد، بل ليحفظ روح تلك الحياة التي أبادها المستعمر بلغة شعرية منسابة بصدق وعاطفة.
هكذا يروي الكاتب على لسان صبي صغير يبحر من إسبانيا إلى العالم الجديد، فتنتهي الرحلة بمهاجمة الهنود الأميركيين لهؤلاء المستكشفين، ويصبح الصبي هو الناجي الوحيد فيأخذونه إلى حياتهم ليرى كل شيء ويعرف كل شيء عنهم، فيترك ذلك في حياته جرحاً كبيراً، وأثراً من ذكريات لا تنسى. لعلها ليست فقط ذاكرة ضحية، بل هي أيضاً رؤية غنية للحياة، ولغة قتلت لتولد لغات أخرى مكانها.
في تصويره للحظة الوصول إلى تلك الأرض، كانت لحظة شعرية تصف ليس فقط وحشية الاحتلال والاستعمار، فهي أيضاً لحظة امتزاج لغة المستعمر بسلاح الضحية، فقد قال القبطان جملة: «إنها أرض بلا...» ولم يكمل، فهي نفسها الجملة التي استخدمها الاحتلال الصهيوني في دعايته وتبريره لمخطط الاستعمار. فقد قال عن فلسطين بأنّها «أرض بلا شعب»، وأيضاً لم يعترف بوجود شعب فيقول: «الفلسطينيون» بدل الشعب الفلسطيني. هكذا يحذف الاستعمار الشعب لغوياً تمهيداً لإبادته. لكن في تلك اللحظة، اخترقت أسهم الهنود الأميركيين رقاب المستكشفين الذين زعموا أنها أرض بلا... كأن تلك اللغة كانت سلاحاً خطيراً، قام السكان الأصليون بمواجهته والتصدي له.
ولأن خوان خوسيه ساير هو أيضاً شاعر، فهو لا يذهب إلى خلاصات مباشرة، لكنه يتأمل تلك الحياة بكل زواياها ومعانيها، ليعلّق عليها بإحساسه أولاً، فيتحدث عن تلك الجملة التي يرددها كثيراً السكان الأصليون «ديف جي ديف جي» لتعني أشياء كثيرة ومصطلحات كثيرة، فيصبح عالمهم متفرداً. وتلك الفرادة ينعتها الغزاة بالهمجية، لكنه يدرك أن ذلك غير صحيح، فهم حقيقيون وأخلاقيون جداً والقبيلة تتصرف كأنّها جسد واحد، يدافع الرجال الأشداء فيها عن الجميع ليحموا مكانهم وموطنهم. وبعد مدة من الزمن، صار يفهم ما يريدون قوله، كأنّها إشارة أننا لا يمكننا أن نفهمهم من دون الاختلاط بهم والإحساس عن قرب بمَ يفكرون.
يقول الكاتب: «اضطررت طوال سنوات، إلى أن أمزق العجين اللاصق لهذه اللغة الموحلة بطابعها، كي أتبين المعنى الدقيق لهذه المقاطع السريعة والزاعقة، التي خاطبوني بها، من دون أن أثق تماماً بأني قد أصبت. يمتلك هذان الصوتان، «ديف جي، ديف جي»، معاني كثيرة متباينة ومتناقضة في الوقت ذاته، ككل الأصوات التي تشكل لغة الهنود». فالتحامهم بالطبيعة كان لغة أخرى، لقد كانوا يتواصلون مع المكان كأنه جزء من تكوينهم الجسدي والروحي، فالسكان الأصليون يتركون تفاصيلهم على الأشجار والنباتات والتراب، لتتحدث الطبيعة عنهم وتقص حكاياتهم. تعرّف هذا الصبي على لغة لا تدعي، حيث تكون تفاصيلها معجونة بالأرض. هكذا ولد هذا الصبي، وربما من هنا يأتي عنوان الكتاب: «المولود من ذي قبل»، فقد ترك الهنود الأميركيون هذا الصبي ليذهب إلى عالمه. لم يكن يدرك لماذا أسروه ولماذا تركوه يذهب في هذا الزورق، ليدرك أنهم كانوا يريدون أن يكتبوا حكايتهم عبر ذلك الشاهد المارّ لتعيش القصة في التاريخ، فيتحول ذلك الغزو إلى استكشاف شعب وليس أرضاً فقط.
يحذف الاستعمار الشعب لغوياً تمهيداً لإبادته


ومن هنا أيضاً يحول الكاتب مهمة السرد الذي يحفظ الحكاية، لكن من زوايا لم نرها من قبل، فالتوثيق هنا ليس النظر عن بُعد وليس شرح الأحداث وبلا استنتاجات سياسية، بل هو غرق في تفاصيل لم يستطع هؤلاء السكان أن يكتبوها، فأتت رسالتهم إلى العالم شبيهة بقصيدة طويلة لا تنتهي، يحملها صبي صغير يغيّر في رؤيته لكل هذا العالم. وهنا لا بد أن نتذكر هؤلاء الذين زاروا فلسطين وعاشوا مع الشعب الفلسطيني ونقلوا رسالتهم إلى العالم، لقد كانوا مؤثرين ومنهم من كانوا صهاينة وحدث ذلك الانقلاب الكبير في حياتهم. إنها لحظة الحقيقة التي تصبح مثل الشعر، والدليل أن الكاتب لا يعيش حياته في ما بعد كما كانت، إنما تصبح ولادة أخرى حقاً، تماماً كما يحدث في غزة الآن.
يقول الكاتب في أحد المقاطع: «لا وجود للحقيقة في أي مكان آخر إن لم تسكنهم. لقد لعبوا، رغم هشاشتهم، دور الدعامة غير الآمنة للأشياء، التي ليست أثبت أو أدوَم من شعلة شمعة وسط العاصفة. لا ينبع هذا الوضع من إحساس عابر وانما هو الحقيقة الرئيسية للعالم الذي ترك علاماتهم في عظامهم ولغتهم».
هكذا تصبح العلاقة مع المكان علاقة وجودية تعطي معنى لكل شيء، إنها معنى فلسفي، أخلاقي، ثقافي وسياسي، وهوية السكان الأصليين لا يمكن أن تمحى، فهي الشاهد على الظلم، رغم إبادتهم. ألم يقل ذلك الشاعر أمبيرتو أكابال من غواتيمالا: «العدالة لا تتحدث لغة الهنود الحمر». لكن لغتهم في هذه الرواية تتفتح من بين التراب وتزهر في كلمات روائي وشاعر أرجنتيني. وفي مشهد حزين، ربما يصف كيف أبيد هؤلاء الهنود وبقيت ذاكرتهم مثل رسالة محفورة في عمق رؤية الكاتب للحياة، ندرك أن سر الحياة هو العمق والمعنى. ومن هنا ستبقى حكايتهم، تماماً كما ختم الكاتب روايته: «ذهبوا كي يناموا وهم شبه راضين، مكثت وحدي في الشاطئ (....) وكنهر عتيق يجر معه نفايات العالم المرئي، تركني تيار ضجيج البحر والمدن ونبضات قلوب البشر في النهاية، داخل هذه الغرفة البيضاء، تحت إضاءة تلك الشموع التي تكاد أن تنطفئ. هذه الرواية قصيدة ليست عن السكان الأصليين بل من قلب وجودهم على الأرض...