يبدو أنَّ القوائم السنوية القصيرة لجائزة «بوكر» الدولية، التي تترشّح لها الروايات المكتوبة بغير اللغة الإنكليزية والمترجَمة إليها، ساعدت الناشر العربي في اختيار عناوين جيدة للترجمة، كما أنَّها قدَّمت له لغة وسيطة بدل اللغة الأصلية التي يصعب إيجاد مترجمين عرب ينقلون منها بشكل مباشر. نذكر مثلاً «تانغو الخراب» للهنغاري لاسلو كراسناهوركاي، و«حياة كاملة» للنمسوي روبرت زيتالر، و«رحَّالة» للبولندية أولغا توكارتشوك، التي فازت بجائزة «نوبل» (2018) في السنة التالية لفوزها بـ «بوكر الدولية».في رواية «الجنّة» لليابانية مييكو كاواكامي، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لـ «بوكر» في عام 2022، وصدرت أخيراً عن «دار الآداب» (ترجمة زوينة آل تويّه)، يجمع جحيم التعرُّض للتنمُّر بين طالبين في صف مدرسي متوسط واحد، هما الراوي الأحول، الذي يبقى من دون اسم على امتداد الرواية، الذي هو من دون شخصية، إذ يستسلم لما يتعرَّض له ولا يفكِّر في مقاومته أو حتى الشكوى منه لأهله أو لإدارة المدرسة، والفتاة كوجيما، التي تبادر إلى التواصل مع الصبي بشكل غير مباشر، عبر رسائل من قصاصات ورق تلصقها داخل دُرج طاولته، تعقبها في أحيان قليلة لقاءات بينهما خارج المدرسة.


عبر هذه اللقاءات، ورسائلها التي تصبح أطول تدريجاً، نفهم السبب الذي يدفع كوجيما إلى ابتكار «العلامات» التي تميِّزها عن الآخرين وتجعلها عُرضة للتنمُّر، وتغبط الراوي على امتلاكه لها سلفاً، وتعبّر عن حبّها لها. والمقصود هنا عينه اليمنى الحولاء المعلَّقة خلف نظارة سميكة. تهمل كوجيما عن عمد ترتيب هيئتها وتصفيف شعرها، ولا تهتم بنظافتها الشخصية ونظافة ثيابها، وتصل بعد ذلك إلى حدِّ التوقف شبه الكامل عن تناول الطعام، ما يتسبّب في نحولها بشدَّة، عكس بقية المراهقات من زميلات صفها اللواتي يبالغن بالاعتناء بأنفسهن، ويستهزئن بها ويُخضعنها لتعذيب جسدي ونفسي قاسيين، تتحمَّلهما برضاها من وجهة نظر فلسفية تبلغ حدَّ التجريد، وتنبع من مرارة تجربتها. إذ إنَّ من يتحمل الظلم هو القوي من وجهة نظرها. أما من يظلم، فهو شخص ضعيف خائف من وجود حالة معينة تختلف عن السائد الذي يألفه ويسيطر عليه (حتى لو كانت عدم معرفته في أي اتجاه تنظر عين الشخص الأحول، وماذا ترى)، وأمام ارتباكه أمامها وعدم فهمه لها، يتعامل معها بعدوانية. تشرح ذلك لرفيقها في إحدى المرات، وهو الأقدر على فهمها، بقولها: «إنّ كل ما نلقاه من أذى إنما نلقاه كي نسمو ونعلو. نلقاه لأجل الناس الذين يدركون أهمية قبولنا لضعفنا». وكمثال على التجريد النابع من عُمق التجربة، نذكر وصف الراوي لخوفه عندما كان رفاق صفه يركلونه في ما بينهم ككرة، بعدما حبسوه داخل إحدى قاعات اللعب في المدرسة وقيَّدوا أطرافه، فيما كانت كوجيما مختبئة في أحد الأركان تراقب ذلك كلَّه: «سمعتُ انسحاق نبضي مثلما ينسحق رمل رطب... كانت هذه المرة الأولى التي أختبر فيها الذعر كصوت».
«الجنّة» التي تحمل الرواية اسمها ليست إلا الفن... خلاص من يعيشون غربةً في هذه الحياة، ولا يجدون مكاناً في زحام نمطيتها وابتذالها وقسوتها، فيخرجون منها إلى عالم آخر عبر نوافذه الرحبة إلى العوالم التي يخلقها. في لقائهما الأول، تصطحب كوجيما رفيقها إلى متحف، وتشرح له عن اللوحات التي يبدو أنها وقفت أمامها كثيراً في السابق وتأملتها مليَّاً، إلى درجة أنها استوعبتها تماماً.
يتميَّز الولدان بحساسية عالية، شحذها في ما يبدو وضعهما الخاص. يتفقان على كرههما للكلمات التي كان العالم ليكون أفضل من دونها، وهنا يقصدان الكلمات المنطوقة التي يُهاجَمان عبرها، لا الكلمات المكتوبة التي يقرآنها في الروايات ويتناقشان بشأنها، أو الكلمات التي يتبادلانها في رسائلهما السرية، وهي كذلك الكلمات التي تجعل الحيوانات أفضل من البشر، مع الإشارة إلى أنّ الأهل الذين لا يصرّح الولدان لهم بما يكابدانه هما أبوان منفصلان، فنحن أمام عائلات تفتقد اللّحمة والتماسك. يخاف الولد أن يتبرَّأ منه هؤلاء الأهل أو يخجلوا به إن حكى لهم ما يتعرَّض له، بتحريض من الشريك الجديد لأحد الأبوين، أو من الحرج من معرفته بمشكلتهم، وهو ما سيكون بالنسبة إليه بمثابة تنمُّر آخر أشد قسوة. كما أن الحساسية المرهفة بلغت بكوجيما مبلغاً يجعلها تبكي من دون سببٍ ظاهر حتى لمن تعرَّض لتنمُّرٍ مثلها. ففي إحدى المرات، بكت أمام لوحة فيها زوجان يأكلان كعكاً في غرفة دافئة. وفي مرة ثانية كان هبوب نسيم هواء لطيف عند الغروب كافياً لأن تسيل دموعها بصمت.
لا يغيب التفكير في الانتحار عن بال الذين يتعرَّضون للتنمُّر


طبعاً لا يغيب التفكير في الانتحار عن بال الذين يتعرَّضون للتنمُّر، وخصوصاً الأكثر ضعفاً بينهم، وهو الراوي في هذه الحالة، لا كوجيما التي حوَّلت ضعفها إلى أداة مواجهة رافضةً التخلي عنه، ومتخذةً موقفاً صارماً معارضاً لمسعى صديقها إلى التخلي عنه. يجاهر الراوي بنيَّته قتل نفسه أمام أحد المعتدين عليه، وقد قام بذلك كتهديد بأذيّتهم بطريقة غير مباشرة عبر أذية نفسه بطريقة مباشرة، عن طريق الشيء الوحيد الذي يملكه وهو بقايا حياته المتقوقعة في جسده المعذَّب. إذ قال له إنَّه سيذكر في رسالة انتحاره الأسباب التي دعته إلى القيام بفعلته، وسيعلن عن أسمائهم وما كانوا يفعلون به، وهي دلالة على اتخاذ تفكيره خطوات جدية في اتجاه التنفيذ، فأغلب من ينتحرون يكونون قد تكلَّموا عن نيَّتهم الإقدام على ذلك سابقاً. يوضح الراوي ذلك بقوله: «في بادئ الأمر، كانت رغبتي في الموت هي رغبة في الاختفاء. أردتُ أن أمحو نفسي، وأن أهنأ بسلامٍ تامّ». تجدر الإشارة إلى أنّ قسوةً من نوع آخر يمكن قراءتها في رواية ثانية لمييكو كاواكامي، تصدر قريباً عن «دار الآداب» أيضاً، هي ترجمة رواية All the lovers in the night، التي تتناول نمط الحياة الذي يعيشه الإنسان المعاصر، ونظام العمل الذي حوَّله إلى آلة، لا وجود له ولا دور إلا كمُنتِج. وعندما ينتهي العمل تنطفئ الآلة، التي تكون قد فقدت بالتدريج مشاعرها الإنسانية، حتى يصبح مجرد الخروج في نزهة مسائية أمراً بحاجة إلى تخطيط، لا ينجح في إنجازه إلا مرات معدودة في السنة.