تقدّم كتابة اليوميات الكثير من التفاصيل عن حياة مؤلفها، وقد تعدّ جزءاً من حكاية «ما وراء الكتابة» التي يهتمّ بها القراء كثيراً، كتلصّص محبّب على حياة كاتبهم المفضل. وتبرز أهمية «اليوميات» إذا كانت لروائي أو كاتب بحجم الكاتبة والأكاديمية المصرية مي التلمساني التي أصدرت أخيراً يومياتها «طرق كثيرة للسفر» (دار دون للنشر ــ القاهرة).تفوح من الكتابة رائحة الغربة والهجرة التي مرّت بها المؤلّفة. تسكن تلك الرائحة معظم التفاصيل التي تذكرها التلمساني (مواليد 1965) بين كندا حيث مقرّ سكنها ومهجرها منذ ربع قرن تقريباً، ومصر حيث ولادتها ونشأتها وسنوات شبابها الأولى وعملها الأول. وعن ذلك تقول إنّ «الإقامة في الخارج تجعل الإنسان أكثر اهتماماً بالتفاصيل، يصبح علمياً ودقيقاً ولا تفوته فائتة»، فالغربة تجعل صاحبها مدققاً في عناوين بلده أكثر ربما من المقيمين فيه. وتظهر هذه اليوميات الأمر بكل وضوح في ما تتناوله التلمساني من موضوعات أو آراء حول أمور بعينها تخص حيواتها بين بلدين، هناك تناقض وفارق شاسع بينهما على الأصعدة كافةً.


تتحدث التلمساني إلى نفسها كثيراً في هذه اليوميات، لكنها في الوقت نفسه تحكي هذا الحديث لقارئها، وتشركه في تفاصيل ما تدوّنه حول الكتابة والحياة بين موطنها ومهجرها، حيث لا شبه بين كل منهما. لكن روحها هي التي تجمع بين المكانين. وبالكتابة والرغبة في التعلم، تجمع المؤلفة بين مجتمع القاهرة ومجتمع أوتاوا، حاكية عن «الصنايعية المظاليم» وهذه الأفكار التي تدور في مخيّلتنا عن هذا العالم الذي يشتكي منه الجميع، أو عن الأب الديكتاتور الذي يفتخر بما يفعله رغم غرابته الشديدة، أو الاحتفالات الجديدة عليها كعيد الشكر في كندا، وهكذا تدوّن المؤلفة ملاحظتها، فتورّط القارئ بحبّ لمزيد من المعرفة عن هذه الحياة.
أمور كثيرة قد تكون فارقة في حياة البشر، كما تقول التلمساني في الجزء المعنون بـ«فنج شوي» عن الأسلوب الذي يتبعه بعضهم في الحياة من أجل مزيد من الراحة والحياة الممتعة. وتقدم في إطار ذلك مزيداً من الأفكار عن الطاقة الطبيعية في حياتنا، وكيف نراها أو نعطيها بعض الانتباه مما ينطبع في ذواتنا بعد ذلك.
في كندا حيث تعمل التلمساني أستاذةً للدارسات السينمائية في «جامعة أوتاوا»، هناك أيضاً طلاب يتركون لها الفصل الدراسي لأنهم يعتقدون أنّ دراسة الموسيقى والحديث عنها حرام! لا يعترف هؤلاء الطلاب بأنه من الممكن أن يغير صوت فيروز حياتهم وهم كما تقول المؤلفة «مشغولون بتصميم القالب ولا نهتم بخصوصية الفرد». وفي سياق هذا الجزء من اليوميات، تتذكر تلك التأثيرات الدينية على حياة البشر كما في «نصائح بوذا» وتعاليمه التي اختارت بعضها وذكرته على أساس أنه يمثل «حقيقة من حقائق الإنسان الكبرى».
«إنسان سعيد لا يصلح شخصية في رواية» من أعزب ما جاء في يوميات «طرق كثيرة للسفر» وكان مغايراً للنصوص التي يحتويها الكتاب، ويصلح أن يكون قصة قصيرة بذاتها أو حتى مفتتحاً لرواية عن هذا الشخص الخيالي.
تنتقل مي التلمساني بيومياتها من سفرة أبيها في مصر وما تعلّمته من خلال جلساتها القصيرة والمحددة الهدف معه، إلى المدارس وما يحدث فيها من لقاء مع أصدقاء جدد وثقافات جديدة، ثم التحكم الأسري بالبنات ـــ الذي لا يزال مستمراً ــــ وكيف تشكّل وعي الكاتبة عبر العمل في مصر والانخراط في المجتمع الثقافي والجامعي المصري، وبعدها الهجرة إلى كندا وبدء المقارنة بين «ناس هناك وناس هنا وحياة الكنديين والمصريين»، وما مرّ بالمؤلفة من أحلام كرغبتها الكبيرة في امتلاك غرفة مكتب مستقلة، وهي الأمنية التي تحققت متأخرة سنوات عديدة، بعدما سكنت بيوتاً كثيرة سواء في القاهرة أو المدن الكندية التي سكنتها منذ هجرتها، وهي يوميات مختلفة عما قدمته الروائية في «الكل يقول أحبك» التي يدور معظم أحداثها في كندا ساردة لما تفعله الهجرة في البشر.
شهدت مصر ولادتها ونشأتها وسنوات شبابها الأولى وعملها الأول


اليوميات أيضاً تشتمل على دعوة للتعلم، كأنّ مي التلمساني تمارس دورها كأستاذة جامعية في كندا منذ سنوات طويلة، داعيةً إلى تعلم لغة ثانية «لأنّ واحدة لا تكفي» في هذا العالم. وتكشف الكاتبة عن محاولاتها الدائمة للكتابة بالفرنسية التي باءت بالفشل، في حين ترجمت أعمالها مثل روايتي «هليوبوليس» و«أكابيللا» إلى اللغة الفرنسية عند صدورهما إلى جانب معظم أعمالها الأخرى (سبع روايات وثلاث مجموعات قصصية وكتب أخرى).
في اليوميات تأمل للفنون أيضاً، لكاتبة خرجت من عائلة فنية اهتمت كثيراً بالأفلام التسجيلية، إذ أنشأ والدها مثلاً شركة تخصّصت في إنتاج هذا النوع من الأفلام، ما جعلها تهتم بالفنون والموسيقى كجزء أصيل في تربيتها، وتختلف هذه اليوميات عن كتاب التلمساني «للجنة سور» (صدرت طبعته الأولى في عام 2009) الذي صدر في طبعة جديدة أيضاً، حيث اهتمت بتوثيق المدن التي سافرت إليها كالقاهرة وباريس ومونتريال وأوتاوا في كندا.
وتثير «طرق كثيرة للسفر» في قارئها كثيراً من الأسئلة حول الحياة والغربة والوطن. وتظهر الكاتبة فلسفتها في الحكم على الأشياء التي علّقت عليها سواء زمنياً أو مكانياً، وهي فلسفة تجمع بين حب الحياة والكتابة كعناوين أساسية لحياة المؤلفة.