لا تصنع الثقافة شاعراً، وحدها الحساسيّة التي تفعل. ها هو الشّاعر الفلسطينيّ أحمد الملّاح المُقيم في الولايات المتّحدة الأميركية منذ عقدين، ويعمل في تدريس الكتابة الإبداعيّة في جامعة بنسلفانيا، يؤطّر بحساسيّة عالية مجموعته الشعريّة «لغةٌ ليست واحدةً» الصادرة بترجمتها العربية عن منشورات «مرفأ» في بيروت. وقد نجحت في ترجمتها عن الإنكليزية بلغةٍ غير مُتكلّفةٍ، وغير معقدّةٍ، مُلامِسةً روح النص وحساسيته، أستاذة الأدب والنّقد العربي في الجامعة، الكاتبة والمترجمة اللبنانيّة هدى فخر الدين.يَشي عنوان المجموعة بحساسية الشّاعر، وعلاقته باللغة، واغترابه عن لغته الأمّ، فهو البعيد عنها الآن وعن الاحتكاك بها على حساب اللغة الإنكليزية التي ترسم معالم حياته اليوميّة في أميركا منذ عشرين عاماً؛ والصّراع الذي يدور في عوالمه الداخليّة ما بين العربية التي فُطِرَ عليها، ثمّ تعلّمها وقرأ آدابها وتأثّر بها، وما بين الإنكليزيّة التي أصبحت لغته الثانية، بعدما تعلّمها، واطّلع على آدابها، وأخذَ يكتب الشِّعر بها. لكنّ حنيناً داخليّاً للغة العربيّة نلمحه في عناوين مجموعاته الشعريّة الثلاثة المكتوبة بالإنكليزيّة: «إنكليزيّة مُرّة»، و«حدّ الحكمة»، و«لغةٌ ليست واحدةً».


جاءت مجموعته هذه ضمن ثلاثة أقسام: «لغةٌ ليست واحدةً»، و«كأغنية على تلّة» و«استعادات».
نلمح في قسمها الأول، المُتضمِن ثمانية نصوص شعريّة، تأثير اللغة على مفردات الشّاعر، ووعيه لمدى أهمية اللغة في تشكيل عوالم الإنسان الدّاخليّة والخارجيّة، وتأثّره بالشّعر العربي؛ إذ نلتمس قاموساً شعريّاً خاصّاً به يتضمّن كلماتٍ وعباراتٍ تُشير إلى اللغة بوصفها وسيلةً للتواصل والتّعبير والشّعور، ووجهاً أصيلاً للهويّة، لا يمكن للإنسان أن ينسلخ عنه مهما طالت سنوات الغربة، ومهما تطفّلت اللغة الثانية على حياة المغترب اليوميّة، مثل: «لسان، حبراً، سطراً، أبا تمام، النّفِس، كما قال شاعر قديم...». ومن قصائد هذا القسم قصيدة بعنوان «إنكليزية مرّة» جاء فيها: «تحزُّ فيَّ لغةٌ ليست واحدةً/ فأجد هذا اللسان الإنكليزي الذي أستعمله كلّ يوم مملاً/ حتّى في الشِّعر. يَحزُّ في، يقطعني في منتصف الجملة/ في منتصف الشعور».
يأتي القسم الثّاني حاملاً عنواناً يشي بالحنين «كأغنية على تلّة»، مُتضمّناً نصين طويلين «أبحث عن ظلّ بيروت»، و«جسر»، لينقلَنا بمفرداته إلى فضاءٍ مُغايرٍ عن اللغة، ولكنّه الوجه الأصيل الآخر للهويّة وهو المكان (الأرض)، حيث يسود شعور الحزن المعجون بنوستالجيا تؤكّد أنّ حنين المرء الأزلي هو لبيته الأوّل، للتّراب الذي عُجِن منه، والهواء الأوّل الذي تشبّعت به خلاياه فكان. وتَغلُب على النّصين مفردات وعبارات مكانيّة مرتبطة بالأرض الأمّ، وفَقدِها، والغُربة المكانيّة والنّفسيّة عنها، وما يجول في خاطر المرء من صراعٍ نفسيٍّ بين الغُربة ولُقمة العيش من جهةٍ، والوطن والعودة إليه من جهةٍ أُخرى. وتجدر الإشارة هنا إلى وَجهي العودة الذي أراد الشّاعر إيصالهما للمُتلقي: العودة كأيّ مغترب من المِهجَر إلى وطنه، والعودة الحَق إلى أمّ البدايات وأمّ النهايات، فلسطين المُحتلّة. ومن هذه العبارات: «أحلامٌ لا تَفِق، أمسكُ بوجعٍ قديم، كيف تقف جدران الحروب القديمة عارية، هذا موطن الفراغ البعيد المنال، ولكنّي أناور في فضاءٍ أخترعه، في طريقنا إلى نقطة الحدود، ما أخضَر هذا المشهد، وما أكثرَه زيتوناً... وممّا جاء في قصيدة «جسر»: نربط الأحزمة وننطلق نحو المستوطنات/ تلوح من بعيد يافطة: «القدس»/ فنمضي في اتجاهٍ آخر، نتفادى/ ونحاذر الطّرق المستقيمة/ دائماً، مسارات ملتوية/ دائماً، سفوح وعرة/ نعلو ونهبط/ إلى حيث تتبعثر القُرى الفلسطينية».
تولّت الكاتبة والمترجمة اللبنانيّة هدى فخر الدين ترجمة المجموعة


نصل إلى القسم الثالث «استعادات»، الذي يتضمّن عشرة نصوص شِعرية، ينتقل فيها الشاعر من وجهَي الهويّة (اللغة- الأرض) إلى مفردات الوجود، باحثاً عن المعنى. لذا نلحظ صيغة استفهام ضمن نصوص قصيرة، يُحافظ فيها كما النصوص السّابقة على استخدام المفردات البسيطة، والتفاصيل الكثيفة، بلغةٍ واقعيّةٍ تنتمي إلى لغة الحياة اليوميّة. وتُجسّد نصوص هذا القسم بمجملها، فكرة أنّ الشّعر عبارة عن لغة داخل لغة؛ يختتمها بقصيدة بعنوان «قصيدة حبّ»، لتكون خاتمة للكتاب ككلّ، كأنّه يقول بذلك إنّ الحبّ هو المعنى، يُفسده الرّحيل، وممّا جاء فيها: «أحدّقُ فيكِ/ ونتوّهم معاً. كنت قبلها قد أخبرتك/ كم أحبّ جواربك، فابتسمنا/ وارتشفنا زعتراً مَغلياً/. قلتِ إنّ الوقت قد حان للرّحيل/ فرحلتُ/ أردتُ أن أقولَ إنّي أحبّكِ/ ولكنّي انتظرتُ يوماً آخرَ».
وبذلك تنقل فخر الدين إلى القارئ العربي، مجموعة الملّاح الشِّعرية الإنكليزية، محافظةً على حساسيّة الملّاح الشِّعرية، وعلى هواجس الهويّة التي تشغله، بوجهيها الأصيلين (اللغة-الأرض)، لتوثّق المجموعة بمجملها صوتاً فلسطينيّاً جديداً، ما هو إلّا استمرارٌ لأصوات شعريّة فلسطينية سبقتهُ، جعلت من الكلمة أداةً لتوكيد أصالة الهويّة الفلسطينية بمقوماتها الكاملة من أرضٍ ولغةٍ وشعبٍ وتاريخ؛ ولتتميّز هذه المجموعة عن غيرها، بأنّها جاءت أساساً باللغة الإنكليزية، لتُخاطب الآخر بلغته، وتُطلعه بذلك على هويتنا، أصالتنا، واقعنا، هواجسنا، وثقافتنا.