مقارنةً بجيرانها الأقربين والأبعدين، فالحضارة العربية-الإسلامية حديثةُ العهد في التدوين ككتابة تأريخية؛ إذا شئنا أن نضعها إزاء الحضارات الرافدينية والفارسية والصينية واليابانية. وما يعقِّدُ الأمور أكثر عند الحديث عن التاريخ في سياقه العربي-الإسلامي، أنَّ الأخباريين ينطلقون في سردهم للوقائع والأحداث من مواقف إيديولوجية (سياسيَّة مغلَّفة بغلاف العقيدة). حتى عندما يتحرَّون الدقة والموضوعية، يتم تصنيفهم وفقاً لقرائهم حسب مِلَلِهم ونِحَلِهم. ولنأخذ، مثلاً، محمداً بن جرير الطبري، وهو الأخباري الذي يحوز المنسوبَ الأكبرَ من الاتفاق عليه بين جلّ المدارس والتيارات والفرق، لاستيعابه جميع المرويات في تأرختِه، سواء أكانت سنية، شيعية أم خارجية... إلَّا أنَّ موته كان مأساوياً، إذ حاصر غلاة الحنابلة بيته إلى أن وافاه الأجل ودُفِنَ فيه، لأنهم اعترضوا حتى على إخراج جثمانه، فقط بسبب موضوعيته في نقل مرويات الشيعة، على رأسها ما تمَّ استخراجه من «تاريخ الأمم والملوك أو تاريخ الرسل والملوك» تحتَ مسمَّى «مرويات أبي مخنف حول وقعة الطَّف». إذاً، تضمحلّ الوقائع الموضوعية في التاريخ العربي-الإسلامي لتصير مرويات شخصية وفقاً لأهواء سياسية/ عقائدية؛ ويتبقى منها القليل مما لا يمكن تزويره أو تذويتُه (إعطاؤه طابعاً ذاتياً)، كالطوبونيميا (أسماء الأماكن الجغرافية) والأساسي في سيرة الشخصيات التاريخية من تاريخ ميلاد ووفاة ووثائق موثوقة وعمران ما زال ماثلاً أمامَنا.
«سقوط قلعة ألموت» عام 1256 (1430من كتاب «جامع التواريخ» لرشيد الدين فضل الله الهمذاني)

لِلوي ألتوسير مقولة مفتاحية يستهل بها الدراسة الجَماعية لـ «رأسمال» ماركس وتختصر إحدى إشكالياتِ سجالاتنا الفكرية: «وبما أنَّه ليس ثمة قراءة بريئة، فلنصرح بأي قراءة نحنُ مُدَانون». وعليه، لا سبيلَ لنا إلَّا أن ننحاز، إيديولوجياً، إلى مرويات في وجه مرويات أخرى. وسيراً على خطى العلَّامتين حسين مروة وهادي العلوي؛ واستمراراً لاشتغالات وانشغالات الدارسين التقدميين طيب تيزيني، ومحمود إسماعيل، وبندلي الجوزي، سننحاز للفرق والقوى المهمَّشة الثائرة ضد بطش الدُّوَل المركزية. سننحاز لقيم التمرد على الاستبداد ونصرة مهزومي التاريخ، وفقاً لنظرة تنويرية تقيم الجدل بين العروبة والإسلام في العودة إلى قراءة تراثنا واستلهام لحظاته المضيئة في الحاضر وفي بناء مستقبل كريم لكل أقوام وأعراق وألسن المشرق والمغرب الكبير.

استيهامات ماركو بولو الاستشراقية
عبر تاريخ الحضارة العربية الإسلاميَّة، لم تتفق أطرافٌ متناحرة مثلما اتَّفقت على مناوَأة فِرقة «الإسماعيلية النزارية» وتشويه الحقائق واصطناع المَرويات عنها. ولم تجتمع الطوائف الإسلامية أكثر مما اجتمعت في كرهها للفرقة الأكثر تفكيراً وتفلسفاً (كان «إخوان الصفا» باعتبارهم أنضج ما أنتجه التفكير الفلسفي المشرقي، إِسماعيليين) وللفرقة الأكثر تمرداً على المركزية القرشية الأرستقراطية العربية (مع الخوارج). لنبدأ أولاً من تسميةِ أحد فروعها بِـ «الحشَّاشين»، فهي، وإن كانت الرَّائجة، إلَّا أنها متأخرة جداً على ما كتبه معاصروها والتابعون لها من أخباريي التاريخ العربي-الإسلامي، إذ تمَّ ربط زعيمها ومعتنقِي دعوتها بطقوس إباحيَّة تختلط فيها المعاشرة الحرَّة بين النساء والرجال مع تناول الحشيش. مرويةٌ وجدنا أوَّل متنٍ لها في كتاب الرَّحالة الإيطالي ماركو بولو (1254-1324) بعنوان «وصفُ العالَم» (أملاهُ من ذاكرته على سكرتيره وهو سجين في مدينة البندقية عام 1298). وهو تأرخةٌ اعتبرها المؤرخون الأوروبيون المتأخرون ممتلئة بالتلفيق والفانتازيا. وفي ما يخص موضوعَنا بالذات، فقد خصص الفصول 40 إلى 42 لِمَنْ أسماه «شيخ الجبل سِنان» مبتدِئاً سرديته بـ«روى لي بعض أهل المنطقة»، لينتقل إلى وصف ما اعتبره طقوساً يستميل بها الشيخ أتباعَه في مشاهد بورنوغرافية ومهلوِسة تؤسِّس للنزعة الاستشراقية في نظرة الغرب إلى الشرق وتمهِّد لصناعة شرق لا يوجد إلا في مخيال الغربيين، ناهيكَ بالالتباس لدى ماركو بولو بين حَسَن الصَّبَّاح (1050-1124) في آلَمُوتْ الفارسية وراشد الدِّين سِنان (1130-1193) بفي مَصْيَافَ الشاميَّة. يزداد الالتباس لدى المؤرخين والرحالة الأوروبيين (يُعفى الروائيون وحدهم من تحرِّي الدقَّة التاريخيّة في صوغ مادتهم التخييليّة) بشخصية تاريخيَة ثالثة: قَصَّارُ مَرْوْ هاشِم بن حكيم المعروف بِـ «المقنَّع الخُراساني» (قُتِلَ أو انتحر في تضارب بين روايتين في عام 783).

أصل التسمية الرائجة
اقترنت هذهِ التسمية المجحِفة بترجمةٍ مغرِضة لاسم «الحشاشين» في جلِّ اللغات الأوروبية بِـ assassins، التي حُرفت بدورها عن معناها العربي، لتصير موطَّنَةً في اللغات الأوروبية بمعناها الحرفي: «القتَلَة» أو «السفَّاحون» من منطَلق عدائي طبعاً بسبب دورهم الفدائي خلال الحروب الصليبية، فمن المعروف أنَّ صلاح الدين الأيوبي (صاحب التَّحوُّل المصري من الإسماعيلية الفاطمية إلى التَّسنُّن الشافعي) حاول استمالتهم في التقاء مصالح ظرفي ضد الفرنجة، كما أنهم المتبنُّون لاغتيال حاكِم إمارة صور وملك مملكة بيت المقدس الإيطالي كونراد دي مونفيراتو (1192)؛ مثلما عُرِفُوا باسم «الفِداويَّة» خلال تحالفهم مع المماليك ضدَّ الصليبيين. ونُرَجِّحُ ما يذهب إليه القليل من الباحثين الموضوعيين المبتعِدين عن الشيطنة الطائفية والمذهبية، أنَّ اسم الحشَّاشين والحَشِيشِيَّة، مشتق من مزاولةِ أهالي جبال الديلم، حيث تقع «قلعةُ آلَمُوتْ» (بالفارسية «عش النسر»)، لمهنة حَشِّ الأعشاب المستعمَلة في المستحضَرات الطبية، التي يكثر نموها في تلك المنطقة لما تتميز به من ظروف مناخية خاصة (2100 متر فوق سطح البحر). منطقة تتسم بوفرة التساقطات الثلجية والمطرية، وفقاً لما أسماه ماركس، خلال تصنيفه لأنماط الإنتاج الآسيوية، بنمط الإنتاج المائي، المعتمد أساساً في أنشطته الاقتصادية على هبات السماء مِنْ مطرٍ وثلجٍ ورياح للتلاقُح. وهناك من يذهب إلى أنَّ الحشاشين تصحيف لكلمة العسَّاسين (العَسَس: الحرس الليلي الساهر على أمانِ قِلاع المناطق المتواجدة تحت سيطرة الإسماعيليَّة النزارية).
لم يكن لنا من بُدٍّ في أن نمشي عكس الكرونولوجيا التاريخيَّة (لكن وفقاً لكرونولوجيا المسلسل كما سنبيِّنُ لاحقاً) لدحض التسمية والسردية الأوروبيّتين، باعتبارهما منطلَق ومصدَر التشويهات المعاصرة التي تتبناها، جزئياً أو كليّاً، جميع المذاهب والطوائف الإسلامية قاطِبةً، بما في ذلكَ الفرع الأم من الإسماعيلية/ الفاطميَّة.
في التأريخ العربي-الإسلامي المعاصر لهم والمتأخِّر عنهم، عُرِف «الحشاشون» بفرقة الإسماعيليَّة النزاريَّة، ونجد أوَّل إشارة إليهم بهذه التسمية وببسط المرويات عنهم والتفصيل في معتقداتهم في موسوعة «المِلَل والنِّحل» للشهرستاني (1086-1135) وفي تأرِخة «البداية والنهاية» لابن الأثير (1160-1233).

لماذا تعاديها كل الفِرق الإسلاميَّة
أما عن العداء الشديد لهم من قبل كل الفرق والمذاهب، فهو نابع أولاً من كونهم فرقة باطنيَّة، تتعارض مع ظاهريَّة كلِّ الفرق السُّنّيَّة في قراءة المتن القرآني. أمَّا شيعيّاً، فالإسماعيليَّة منشقَّةٌ عن المذهب الإثناعشري (ولو أنهما يتقاسمان الاستناد إلى الفقه الجعفري في أمور العقيدة والفُتْيَا). وفي تفصيلٍ مهم: وُلدَ حسن الصَّباح في قُمْ ونشأ فيها إثناعشرياً، ولم يتحوَّل إلى الدعوة الإسماعيليَّة إلا في عام 1076، عند تأديته يمين الانضمام إلى دعوتهم في مدينة الرَّيّ أمام نائب عبد الملك بن عّطَّاش، داعي دُعاة غرب فارس والعراق آنذاك. والإسماعيليَّة ــ على مستوى الإمامة والخلافة ــ تسمَّى سَبْعِيَّةً لأنها، ضمن تسلسل إمامةِ آل البيت، تشرع بالإمام الأوَّل علي بن أبي طالب وتنتهي بالإمام السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. كما أنَّ النزاريَّة فرعٌ منشق عن الإسماعيلية الأم لدى الفاطميين. وقد تسَمّوا بالنزاريَّة بعدَ موت الخليفة الإمام الفاطمي المستنصِر (1094) واحتدامِ التناحُر بين ابنيه البِكر أبي منصور نزار، الذي أوصى له أبوه بالخلافة، والأصغر أبي القاسم أحمد، الذي تولَّى الخلافة غصباً بتواطؤ وتآمر مع الأفضل بن بَدْرٍ الجماليّ، ليُبايَع باسم المستعلي بالله، بعد تصفية تمرّد شقيقه الأكبر. انقسمت الإسماعيلية، منذئذٍ، إلى فرعين متناحرين: النزاريَّة والمستعلِية، كلٌّ حسبَ من يراهُ الأحقَّ بالخلافة. وكان حسن الصباح، منذ مبايعته للمستنصِر في بلاطه القاهري حتى مماته، متشيعاً لنزار، لذلك تسمت الفرقةُ التي أسسَها إسماعيليَّة نزارية، مثلما روّجت لنفسها تحت مسمَّى «الدعوة الجديدة». كلُّ هذا التاريخ من الانشقاقات والصراعات والمُشَايعات جعلت من حسن الصَّبَّاح عدواً شخصياً وخصماً سياسياً لكل فرق السنة والشيعة، بما فيها الفرع الإسماعيلي الفاطمي الأمّ والأصل الشيعي الأكبر والممثل للغالبية: الإثناعشرية.
لم يكن لنا، مرّةً أُخرى من بُدٍّ في تقديم هذا الجرد التاريخي والعقائدي المختَصَر، لأنَّه يقع في صلب أحداث المسلسل وفي تناوُلهِ الفني والإيديولوجي، بل إنَّ الصراعات السياسية والعقائدية للقرون الوسطى التي استعرضناها آنفاً، ما زالت تجد لها صدى ووقعاً دموياً في فترتنا المعاصرة، بدايةً من الثورة الإيرانيَّة، مروراً بالنقط الملتهبة في إيران والعراق وسوريا وتركيا وأفغانستان وباكستان ومصر، وانتهاءً بالحِرَاكات الشعبية في عام 2011، التي أحمَتْ أوارها تنظيمات سلفية جهادية وأجهزة استخبارات غربية وأنظمة وقيادات عسكرية حليفة للغرب الاستعماري.

بين الأداة الدعائية والتلفيق التاريخي
بعد هذه التوطئة التاريخية، سنحاول الآن تقديم ملاحظات حول الحلقات الثَّمان الأولى من مسلسل «الحشَّاشين»، واضعين الإصبع على مغالطات تاريخيَّة مقصودة فيه، لغايات سياسيَّة مغلَّفة بغطاءِ العقيدة ومزيَّنة بغلاف جماليات الصناعة السينمائيَّة.
يقدِّم لنا علم اجتماع الأدب والفن مفهوماً مِفتاحياً لدراسة غايات كل إنتاج ثقافي عبر ما يسميِّه المنظِّر الماركسي بيار ماشري «سياقات إنتاج النَّص». ومن ضمن مشاربها الظروف السوسيو-ثقافية لنشأة الكاتب ورؤيته الإيديولوجية والسلسلة الكاملة لإنتاج النص وتسويقه، مِنْ ظرف تاريخي وجغرافي وناشر وممول للمشروع الثقافي ومروّج له في الإعلامين المكتوب والسمعي البصري. تطبيقاً لهذه الآليات على مسلسل «الحشَّاشين»، نجد أنفسنا أمام منتوج ثقافي صاغ سيناريو وحوارات أحداثه عبد الرحيم كمال، ابنُ الطرق الصوفية نشأةً وتربيةً وإيديولوجيا. طرق صوفية بدأ دورها السياسي يتنامى مع الرئيس «المؤمن» أنور السادات في مواجهة اليسارَيْن الماركسي والناصري، فمديحه للسادات وللساداتية واضحٌ جداً في سيناريو مسلسل سابق وضعه (جزيرة غمام ــ 2022) من دون أن ننسى أنَّ التحالف الطبقي والسياسي النافذ في مصر الآن تحالفٌ من رجال مال وأعمال ورجال دين أزهريين وطرق صوفيَة وسلفيين وعسكرتاريا كبار ضباط الجيش المصري في مواجهة سياسية عقائدية (وليست اقتصادية) مع الإخوان المسلمين من جهة، وسياسية-اقتصادية مع القوى الديموقراطية للشعب المصري التي تم تفتيتها وتفكيكها على إثر موجتَيْ الثورة المصرية التي لم تكن في مصلتحها بسبب أخطاء قاتلة في نسج التحالفات ولتواطؤات بعض القيادات مع الغرب والعسكر والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. سياق إنتاج مماثل يجعلنا نتساءل: هل مصر في ظلِّ نظام مماثل يشرف على كل هذا التحالف الرجعي التابع والمتصهين، ستسمح بإنتاج مادة ثقافية تنصف فرقةً مبغوضةً من جل الفرق الإسلامية ومن مؤسسة الأزهر (التي كان لها دور كبير خلال المدة الناصرية في التقريب بين المذاهب)؟ أليس المسلسلُ «ضرورةً» مصرية لتصفية الحساب مع خصم أو عدو سياسي عبر آلية ثقافية تحوَّلت إلى أداة دعائيَّة؟ هل نحن بحاجة إلى مادة ثقافية أخرى تفتري على الإسماعيلية النزارية؟ لم يتأخر الإعلام المصري الرسمي عن تأكيد مزاعمنا: على غلاف عدد 16 آذار (مارس) من مجلَّة «روز اليوسف»، وُضعت صورة مفتي الديار المصرية السابق علي جمعة في وجه صورة الممثل كريم عبد العزيز في دور حسن الصبَّاح (خلط آخر لشخصية واقعية مع دور تمثيلي)، مع عناوين مَحاور العدد التي تساوي بين «الحشاشين» والفرع المصري من تنظيم الإخوان المسلمين، بين حسن الصبَّاح وحسن البنا، بين الصراع العقائدي/السياسي الراهن في مصر والصراع العقائدي/ السياسي في مشرق القرون الوسطى.
في الملصَق الترويجي للمسلسل، وضع مصمّموه تحت العنوان الرئيسي عنواناً فرعياً: «أباطيل وأبطال... من وحي التَّاريخ»، ما يفترض، بالضرورة، الاستناد إلى التاريخ العربي-الإسلامي، مع ما فيه من رؤى إيديولوجية متضاربة وسرديات أخباريي فِرَق ضد فِرق مناوئة، تلتبس فيها الحقائق بالتلفيقات. كما يفترض بالإنتاجات التاريخية، ابنة التفكير النقدي أولاً، قبل أن تكون آلة دعائية، أن تنصف مهزومي التاريخ. فعندما صنع الأميركان فيلماً عن الحركة السبارتاكية وآخر عن الحركة الغيفارية كانوا منصفين إلى حدٍّ كبير في إعادة الاعتبار لهاتين الحركتين؛ كما أنَّ عظمة فيلم Little Big Man (1970)، في عز الحرب على الفيتنام، تمثّلت في إعادة النظر الجذرية في رؤية السينما الأميركية للهنود الحمر وإنكار إبادتهم، عبر إعادة الاعتبار إليهم في نقطة تحول أساسية في تاريخ السينما الأميركية. وهذا ما سيتعزّز في تحفة أخرى مع فيلم «الرقص مع الذئاب» (1990)؛ فالسينما الحقيقية تنتصر لمهمَّشي التاريخ ومهزوميه. لكن يبدو أنَّ مسلسل «الحشاشين» يتخذ منحى مخالِفاً، ويطلق العنان للتخييل المغرِض بدل التمسك بالتدقيق في الأحداث التاريخية (للإشارة، فالمنادون بحرية السيناريست في التخييل يتماهَوْنَ مع أولئك الذين أنكروا على سلمان رشدي جنوحَ خياله في «آيات شيطانية» رغم الفارق الكبير بين الحالتين: فالمسلسل يدّعي الاستيحاء من التاريخ، بينما سلمان رشدي جَنَّس كتابَه كرواية وافتتحها بحدث غرائبي/ خيالي؛ وبما أنَّ الشيء بالشيء يُذْكَر: سلمان رشدي ابنُ مدينة بومباي، ابنُ الهند الإسلامية المغولية الإسماعيليَّة تربيةً ونشأةً).
يبدأ المسلسل بمشهد قدومِ رسولِ ملك «مملكة فرنسا وباريس» لرؤية حسن الصبَّاح في «قلعة آلموت»، عارضاً عليه اتفاقية عدم اعتداءٍ وتحالفاً سياسياً بين حركة الإسماعيليَّة النزارية وفرنسا. وكان الرد من حسن الصباح أن استعرض على الرسول الفرنجي مشهد فِداء تقدم فيه أحد جُند حامية القلعة إلى أعلى السور، ملقياً بنفسه مِنْ عَلٍ ليرتطم بالأرض جثةً هامدة. كلُّ هذا الولاء الأعمى للزعيم وشهية الموت والقتل التي تمَّ الترويج لها حول «الحشاشين» يتبنَّاها المسلسل جملةً وتفصيلاً، بل هي رؤية تتأسس عليها كل هذه النظرة المصطنَعة والمركَّبة من وجهة نظر غربيَّة (الرحالة، الديبلوماسيون والمستكشفون الغربيون الذين شرعوا في التغلغل في المشرق العربي القرسطوي خلال الحروب الصليبية تمهيداً لكولونيالية الكشوفات الجغرافية).
حتى اللغة السينمائية لم تنجُ من التوظيف لغاياتٍ ومرامٍ سياسويَّة، إذ تمَّ استعمال الخدع البصرية السينمائية، في أحد المشاهد، لتأكيد قدرة حسن الصبَّاح على الانشطار إلى أكثر من شخص والتواجد في أكثر من مكان في الوقت نفسِه.
يعاني المسلسل أيضاً من التخبط في التسمية بين الحسن بن الصباح (في تقديم الحلقة الأولى) وحَسَن الصَّبَّاح (وهي الأصح) في باقي المسلسل. كما أن اعتبار المسلسل الباطنية فرقة كاملةً ومنسجمة، بينما هي قراءة للنص وكل متن الكون تجمع بين طيف من الفرق لا تأخذ بظاهر المقروء، فيه انتصار غير موضوعي للفرق السنية دون غيرها. انتصارٌ مُغرِضٌ بما أنه يلعب على التباس المصطلح. التباس يسري حتى على اختيار المعمار، الذي تطغى عليه العمارة الأندلسية والمغولية والمملوكيَّة في تصميم الحواري والأسواق والقصور، في حين أنَّ العمارتين الفاطمية والسلجوقية تتسمان بطباع خاصة وسمات فريدة لا توجدان في غيرهما. سيراً على النهج نفسه من المغالطات التاريخية، يورد المسلسل أن الوزير بدر الدين الجمالي (1015-1094) هو من رفع المستعلي بالله أحمد إلى سدة الخلافة والإمامة خلَفاً للمستنصر بالله (1029-1024) الذي لم يتوفَّ إلَّا بعد حوالى 35 يوماً من وفاةِ وزيرهِ، في حين أنَّ المتلاعِبَ بوراثة الخلافة الفاطمية هو ابن بدر الدين الجمالي الوزير الأفضل شاهنشاه (1066-1121).
وتبقى جريرة الجرائر في الافتئات على التاريخ، جعل سيناريو المسلسل الوزيرَ نظام المُلك (1018-1092) وحسن الصباح (1037-1124) وعمر الخيام (1048-1131) أترابَ طفولة ورفاق دراسة مع الفرق الكبير في السن بينهم؛ وربما يغتفر هذا الأمر لأمين معلوف في «سمرقند»، بما أنَّها رواية تخييلية وظَّف فيها هذا الجمع المخالف للتاريخ بين الشخصيات من أجل خدمة حبكته السردية وتوتيرها درامياً؛ لكنه غير مستساغ مطلقاً في مسلسل «مستوحى من التاريخ» زجَّ باسم عمر الخيام وسط تشكُّل الفرقة الإسماعيلية في خراسان الكبرى، في حين أنه كان مثل المعري تقريباً، مُتَفَكِّراً مستقلاً عن الجماعات مزج بين العرفان والشك الفلسفي وما أسماه العلامة هادي العلوي التصوف الإلحادي الذي يكاد يكون ربوبياً كتقيَّة في وجه الغلو السلجوقي الذي أرسى، عبر الوزير نظام الملك، العقيدة الأشعرية عقيدةً رسمية للدولة السلجوقية وبمباركة من أبي حامد الغزالي، رائد تكفير الفلاسفة ومفرِّخ الحنبلية الجديدة. وعمر الخيام هذا، قبل إقحامِه تلفيقاً في الأحداث التاريخية، وُظِّف أوَّلاً في الموسيقى التصويرية لجينيريك المسلسل، عبر توزيع موسيقي جديد للرباعية الأولى من رباعياته بترجمة أحمد رامي، وبالرقابة الكلثومية نفسها: «سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحر/ نادى من الغيب: - غُفَاةَ البشر..»، حيث استبدلت سيدة الطرب العربي كلمة «ألحان» كما هي في الترجمة التي صنعها رامي بكلمة «الغيب»؛ فكلُّ مشكل أهل الظاهر (هنا دار الإفتاء المصرية والسيناريست والطاقم التقني للمسلسل كأدوات للمؤسسة الرسمية المصرية) مع أهل الباطن (كل فِرق الشيعة، المتصوفة، الشعراء باعتبارهم أهل رمزٍ وترميز، متكلمي المعتزلة، الفلاسفة) يمكن تركيزه في هذا الفعل الرقابي البالغ الدلالة: فالمسلسل، في نهاية المطاف، ينحاز إلى قراءة ظاهرية/ سطحية للنص والكون، ولا يرى في «ألحان» سوى أنَّه وكر لاحتساء الخمر، عاجزاً (غير راغب) عن إنتاج آليات قراءة تسبر أغوار باطن النصوص وتجتهد في استيلاد معانيها الخفية، الرمزية، حيث يصير إلحان، مكاناً رمزياً للانتشاء بالخمرة الصوفيَّة التي تقرِّبُ أهل العرفان من العشق الإلهي في لحظاتِ تجلٍّ كثيراً ما مرَّ بها أقطاب التصوف.
الدولة المركزية تحتكر العنف الذي يشرعنه لها المؤرخون، أي بمقاييس اليوم: «حماس» تمارس «الإرهاب» وإسرائيل «تدافع عن نفسها»


أمَّا في ما يخص اتهام «الحشاشين» بتنفيذ عمليات اغتيال، فهو اتهام يتناسى مروِّجوه أنَّ مدة القرون الوسطى في المشرق كانت من بين أكبر الحقب دمويةً في تناحر الممالك والفرق والأعراق، إضافة إلى تطاحن المشرقيين والصليبيين. قبل أن يقوم الإسماعيليون النزاريون باغتيال نظام الملك، مارس الأخير التنكيلَ بهم وتصفيتهم بالمئات. الفارق بين قَتل وقتل، يقوم فقط على أساس أنَّ الدولة المركزية تحتكر العنف وتمارسه في إطار مؤسساتي يزيد من شرعنته المؤرخون الرسميون، بينما الفرق الهامشية الممهدة لثورتها بالعنف بعيداً من مركز الدولة تفتقد إلى هذه الشرعية في ممارسة العنف والاقتصاص لمظلوميها ورفع المظالم عن الشعوب. بمقاييس اليوم: حركة «حماس» تمارس «الإرهاب»، والكيان المؤقَّت «يدافع عن نفسه».
في الخلاصة، عندما وجَّه رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان انتقادات إلى الأميركيين، في محاولة لوضع باكستان على مسار استقلال القرار السياسي والقطع مع التبعية الاقتصادية، انبرى لإجهاض هذا المشروع الأميركيون وتابِعوهم من إسلاميين وعسكر وطغمة مالية. هو التحالف نفسه تقريباً، وهو مجتمِعٌ على تشويه صفحة من تراثنا العربي-الإسلامي: رحَّالة غربيون، مستكشِفون جغرافيون ممهِّدون للاستعمار، صليبيون، سلفيون، طرق صوفية وأصناف أخرى من رجال دين رهن إشارة العسكر والغرب، رأسمال طفيلي... لصنع مسلسل يلفق أحداثاً بتصفية الحسابات مع خصمٍ قديم ويُسْتَعْمَل أداةً لتصفية الحسابات مع خصم الحاضر. فلماذا العَنْوَنَة بِـ «الحشاشين» العامية، وليس «الحشاشون» الفصيحة؟ ولماذا استعمال المحكية المصرية، وليس العربية الفصحى التي يتم اللجوء إليها دائماً كلما كان السياق عربياً إسلامياً، إلَّا إذا أفتت الأمر «ضرورات» داخلية مصرية صِرفة؟

ملاحظتان:
1. اعتمدنا التقويم الميلادي في ضبط كل التواريخ:
2. بما أنَّ تسمية «الحشاشين» واردةٌ إلينا من الكتابات الاستشراقية، فإننا نستعملها بتحفظ، بين مزدوجين.

مصادر ومراجع
فرهاد دفتري: «خرافات الحشاشين»، دار المدى، دمشق، 1996.
فرهاد دفتري: «معجم التاريخ الإسماعيلي»، دار الساقي، بيروت، 2016.
هادي العلوي: «مدارات صوفية، تراث الثورة المشاعية في الشرق»؛ دار المدى، دمشق، 1997.
Althusser [Louis]: Du “Capital» à la philosophie de Marx”‚ in Louis Althusser et Étienne Balibar: Lire le Capital l, François Maspero‚ Paris‚1973.
Lewis [Bernard]: Les assassins‚ traduit par Annick Pélissier‚ Les belles lettres‚ Paris‚ 2019.
Maalouf [Amin]: Samarcande‚ Le livre de poche‚ Paris‚ 1989.
Macherey [Pierre]: Pour une théorie de la production littéraire, coll. “Bibliothèque idéale des sciences sociales”‚ Ens éd.‚ Lyon‚ 2014.
Polo [Marco]: La description du monde‚ Livre de poche‚ 1998.