تمهيد لا ضرورة لهتكاثفت الصدف ذلك اليوم لتجعل من حياة كل واحد من ثلاثتهم جحيماً، في يوم شديد البرودة من أواخر أيام شهر آذار الباردة. وسيعرف من يعود إلى ذلك اليوم، أن عوالم انهدت بعده، وحقائق وأكاذيب، وأوهاماً نزلت تحت الأنقاض. إنه يوم خرجت فيه سبع سنوات عن نفسها لتنتج صورة هدمت كل وهم في بلدهم.
منار، ابنة الحي العشوائي الضيق على التلة المقابلة لباب المغاربة في القدس، ببيئته السوداء والمريضة، حيث تكثر المصائب والانحرافات، والفقر والعوز والعيش على هامش حياة المدينة السريعة، في بيوت نصفها مغر ونصفها غرف بناها أهل الحي على عجل، للتماهي مع البنيان المعماري للمدينة التي غزت أحياؤها مغرهم في حي الزنار المتاخم لمقبرة اليهود، بين ضاحيتي رأس العامود وسلوان المتلاصقتين، شيئاً فشيئاً، إلى أن صار حي الزنار زناراً فعلياً يتوسط سلوان ورأس العامود. وزياد، ابن عم منار، من عوائل رأس العامود المتنفّذة، والذي أحب عمه والدة منار وتزوجها رغم رفض عائلته الشديد مصاهرة سكان حي الزنار. زياد الذي كان في طفولته مدللاً، كونه الحفيد الأكبر للعائلة الأكثر سلطة مادياً ومعنوياً في رأس العامود، صحا فجأة على كونه مطالباً بين يوم وليلة برجولة لم يعرف معناها بعد.
وشذى، ابنة الريف التي كبرت مع الأزهار البرية، وتعلمت كيف تكبر لتتعرف إلى خياراتها في واقع المدينة وحياتها، جاءت بها الأقدار لتشارك الاثنين سنتين من عمرها في حي الزنار، قبل أن تنتقل أسرتها إلى حي بيت حنينا، ابتعاداً بها وبإخوتها عن مناطق اندلاع الانتفاضة الأولى في بئر أيوب المتاخمة لسلوان.

باب العامود (وكالة وفا ــ 2023)

في يوم الانهيارات الكبيرة، حمل كل واحد منهم همّه بين كتفيه، ومضى محاولاً أن يملُص به من حاجز قلنديا. الحاجز الأكبر حول مدينة القدس، الذي نصبته قوات الاحتلال على المفترق الرئيسي الذي يفصل بين محافظتي القدس ورام الله، ويعد المفترق الرئيسي الذي يربط حركة المواصلات العامة بين معظم المدن الفلسطينية ورام الله والقدس.
على هذا الحاجز، قاتل الوقت، الذي لا يرحم صيفاً ولا شتاء، لا أطفالاً ولا كباراً. مُحال ألا تلتقي الجبال، والناس، والأمتعة والقصص، وخصوصاً أن على كل منهم أن يقضي منتظراً فرج الله ساعات وساعات. كأن الواقفين أمامه في انتظار الأمر يوم الحشر.
ويومها، كان القرار العسكري يقول، من داخل الحاجز داخله، ومن خارجه خارجه، لا عبور ما بين الجانبين، وعلى الجانبين طوال الساعات التسع تلك، كانت قصص تولد، وقصص تموت.
كان ذلك يوم الثامن والعشرين من آذار 2002، يوم الاجتياح، وفيما كانت الدبابات تجتث الإسفلت تحت جنازيرها متجهة إلى رام الله، كان ثلاثتهم يشقون طريقهم وسط الحشد لمغادرة المدينة.
زياد
استيقظ زياد ذلك الصباح وهو متأكد تماماً بأنّ ما فعله في الليلة السابقة كان السبب. خرج بملابسه المبهدلة وملامحه المتعبة كمن لبسه جنيّ، حين وصلته الأخبار.
ماذا يعني موت والده. لم يقترب منه ولم يعرف كيف يرتبط به من قبل. بل إنه دائماً ما خجل به، وعاش حياته ينزع عنه أي شبه به. إلا أنه الابن الأكبر، ولا يمكنه التهرب من مسؤولية الابن الأكبر، خاصة فيما يتعلق بتفاصيل وإجراءات الاستلام وترتيب التغسيل والدفن، وخبر الجريدة، والاتصال بالمقبرة، والمقرئ واستئجار الكراسي وشراشف الميتم الحمراء، والاتفاق مع المغسّل، وإعلام إمام الجامع بوقت الميتم ليعلنه على السماعات، وترتيب غداء الميتم، والقهوة، والتمر والكنافة الخشنة، ومهام استلام أكياس السكر والبن والبيت الذي ستخزن فيه، كلها تفاصيل هجمت على رأسه كمطارق لا ترحم فجأة، لحظة أغلق السماعة مع أمه. كل ما استطاع فعله هو تغسيل وجهه على عجل صباحاً، أول ما عاد إليه وعيه، وتمكّن من الاتصال بأمه. قاتل ذباب وجهه بعد تلك المكالمة وهام في طريقه، فيما قطع المسافة من حوش بيت صديقه سمير محاذياً قن الدجاج، راكلاً الديكين العدائيين من أمامه، وهو مطأطئ رأسه خشية أن يراه أحد خارجاً من بيت أم سمير، أو يراه أحد خارجاً من حي الزنار من أساسه.
وعلى تكبر عائلته على النَّوَر الذين يستأجرون منهم قسم الحيّ الأدنى لرأس العامود، والذي سماه النور حي «الزنار» تيمناً بـ«زنار»، الفتاة النورية التي جننت شباب رأس العامود في أولى سنوات وصول النور عبوراً من جسر الملك حسين، قاطعين الطريق عبر مدينة أريحا وصولاً إلى القدس، ليستقر نصفهم في حي باب حطة في البلدة القديمة، بينما يتخذ نصفهم الآخر، مغر رأس العامود ملاذاً ومكاناً لبغالهم وحصنهم، إذ وفر السهل المقابل لسور البلدة القديمة والمنطقة الأثرية مساحة فسيحة وفرصة للشحاذة من السيّاح الأجانب الذين يجوبون شارع طنطور فرعون، مروراً بمقاطعة النور، أسفل حي رأس العامود، وصولاً إلى برك سليمان حيث يسبحون ويتبركون بالتاريخ، ويعودون أدراجهم سالمين إن أدركهم الحظ ولم يقعوا بين براثن أبناء النور الذين طوروا الشحاذة في ذلك الشارع، لتصبح أشبه بدفع الخاوة: إما أن يدفع السائح أو أن يغادر الحيّ مسلخ الجلد بسلخات عيدان القصب التي كانت تنمو، لسوء حظ السياح، بكثرة حول مجرى الماء الذي صنعته برك سليمان على طول شارع طنطور فرعون الترابي.
ورغم أن أهل رأس العامود نسوا واختلفوا فيما بعد على سبب تسمية حي النور باسم حي الزنار، وعلّلوه بأنه، أي الحي، يفصل العالمين، عالم أهل رأس العامود الأصليين، والنور، إلا أن امرأة واحدة في عائلة أبو مخلب تعرف أصل التسمية تماماً. «الرسن»، وهي حفيدة «زنار» من ابنتها، ووحيدتها، التي أنجبتها من دون زواج من عليّ، أوسط أبناء عائلة أبو مخلب، والذي ورث عن والديه كل شيء بعد مقتل أخويه الأكبر والأصغر في عراك دموي مع رجال النور بسبب علاقته بزنار. كبرت «ميساء» في كنف عائلة أبو مخلب، سليلتهم ومدللتهم، التي أنستهم تاريخ زنار من رأسه إلى ساسه، حفيدة علي أبو مخلب، التي ستصبح أقوى وأشر بنات عائلة أبو مخلب، وتحمل اسم «الرسن» بعد سنوات طويلة، لتحكم الحيّ وأجرة البيوت والأراضي الشهرية بقبضة من حديد، على كرهها للنور وسيرتهم.
ومن سوء حظه، كان على زياد اليوم، أن يتجه إلى رام الله، ليوقّع على بعض الأوراق ويتسلّم جثة والده.
اقتنع زياد أن هذا كان زلزاله الخاص. صحصح على خبر موت والده وبدأ يعي ما حوله قرابة الساعة الحادية عشرة والربع، أي إن الحافلة التي تمر كل ساعة قد فاتته، وعليه أن يمشي إلى محطة الحافلات المركزية. وهي مسافة لم تؤرقه من قبل. فهو يأخذ الطريق المختصرة من جانب مقبرة اليهود، ويصعد التل حتى باب المغاربة، ويقطع البلدة القديمة مروراً بباب حطة، حتى يخرج من باب الساهرة، ليقطع شارع السلطان سليمان، وما هي إلا خطوات حتى يصل موقف باصات رام الله بعد مبنى البريد في شارع صلاح الدين. مسافة ربما قطعها ثلاث أو أربع مرات يومياً، بين الحي ووسط البلد. لكن ليس اليوم. اليوم مع هذا الصداع القاتل والغثيان، لا شيء يسعفه. والخبر بغض النظر عن كل تفاصيل علاقته المبتورة بوالده، غصّ باله، وأوهنه. فهو عبء مهما قلب الأمر في رأسه، مليون تفصيل عليه أن يقوم به. ورغم أن الجيران والأهل يلتفون حول أهل الميت ويساعدونهم في الميتم، إلا أن الترتيبات الأولية تبدو أشبه بل أعقد من تنظيم وإدارة مهرجان، وفيها من التفاصيل التنظيمية والحجوزات ما يجعلها تفوق تنظيم المهرجانات صعوبةً، كون الوقت عاملاً حاسماً، إذ إن الميت يجب أن يدفن عقب صلاة الظهر، وعليه فإن كل تفاصيل الجنازة، والتغسيل، والإعلان، يجب أن تتم في وقت ماراثوني.
مع حسبان وجود الجثة في رام الله، فهذا يعني أن الدفن لن يتم اليوم. وعليه، فقد مشى زياد محاكياً نفسه، شارداً في القبور المصطفة، في مقبرة اليهود، وهو يفرقع أصابعه، راكلاً الأحجار، متمتماً بسباب فيما هو يحسب ألف حساب، إذ سيكون عليه أن يرتب لسيارة نقل الموتى، كي تنتظره على جهة القدس من حاجز قلنديا العسكري، وأن عليه بالتالي أن يقطع الحاجز بالجثة ويقنع الجنود بأن والده من القدس، ومن بعدها سيتعين عليه تصديق شهادة الوفاة من المحكمة الشرعية، وبعدها ما هو أصعب..
أن يبقى مع جثة والده ليلة كاملة!
لم يستطع أي تفصيل في باله أن يقنعه بأن كل ما حدث صباح اليوم هو الزلزال بعينه. زلزاله الذي تسبّب به في لحظة ضعف.
حمل زياد حجرين وألقى بهما نحو صبية من صغار النور تحلّقوا أمامه حول سائحة مسكينة. أفرغ غضبه كله في أحدهم، وكان يعرف أخوته الكبار، ودائماً ما أبرحهم ضرباً في طفولته، ركله ولطمه، حتى ملص الصبي من بين يديه بأعجوبة وفرّ لاحقاً بباقي الصبية الذين تفرقوا باتجاه صخرة الزنار والمقبرة. ركضت السائحة هرباً من الصبية ومن زياد، فلم تعرف إن كان عليها شكره، أو الهرب منه، فقد يكون ضربه للأطفال لأنهم يشحذون في منطقته، وربما يكمل عليها بعدهم.
أخرج زياد شوكة دخلت في إبهامه وهو يكمل موجة سبابه، ولم يدر لم اجتاحه البكاء. وحيداً كان، وكانت أشجار الدير تتحرك بنفحة هواء آذاري باردة، كأنما تخفف من هذا الحزن غير العادي الذي ضربه فجأة. جلس زياد بمحاذاة سور الدير الحجري القصير، يمسح سيل الدموع، ويجأر باكياً.
لم يفجعه الموت من قبل. ليس وهو واع به على الأقل. على كثرة المآتم التي حضرها كونه الابن الأكبر لوالده، وسداً لفراغ والده الذي لطالما تغيّب عن واجباته الاجتماعية، لم يقترب الموت من زياد بهذا الشكل من قبل. لم يمرّ بذهنه هاجس أنه سيتعامل مع موت والده. فوالده لم يتجاوز الخامسة والأربعين. كان شاباً ضخماً صحيح الجسم، لولا أن أهزله إدمانه الشديد على تعاطي المخدرات في سنواته الخمس الأخيرة، لكن زياد لم يفكر ولو لثانية في الموت. لم يطرق باله أن فقدان هذا الجزء المبتور أصلاً من صورة العائلة سيعييه بهذا الشكل.
لم يدر زياد كم مرّ عليه وقت وهو على جلسته تلك. قرصته معدته. مد يده إلى شجرة الخشخاش، قطف خشخاشتين، ومضى ماسحاً وجهه، فيما قضم قشرة الخشخاش من غنيمته وذابت في فمه قشعريرة الطعم الحامض والمر للخشخاش الأخضر. هدأ صداعه مع الرائحة العطرية لقشر الخشخاش، وهدأ لوكه للقشرة من غثيانه. مشى متعَباً في سيره وقد شعر ببعض القدرة على المواصلة تعود إليه. غيّر رأيه ومشى بضع خطوات عند باب المغاربة ومد يده مؤشراً للسيارات ليتحصل على توصيلة نحو باب العامود، فيضمن مكاناً في حافلة رام الله، إذ لم يرد بعد أن يغامر ليستقل الحافلة من شارع صلاح الدين، إن كانت ممتلئة أو متأخرة، فقد لا يتوقف السائق على ذلك الموقف، وهو في غنى عن أي تأخير آخر.
شكر زياد السائق الغريب الذي أنزله قرب دوار باب العامود. وما إن نزل من السيارة حتى اجتذبته رائحة الزعتر والفلافل من عربة بائع خبز كعك السمسم في أول شارع نابلس، حيث محطة الحافلات المركزية.
نظر رائد في ساعته، كانت الحافلة ستتحرك بعد ربع ساعة. اشترى كعكة بالسمسم مع زعتر وقرص فلافل محشو بالبصل والسماق الذي فاحت رائحته حول الكشك. استند إلى سور مدرسة راهبات الشميدت، متفيئاً بظل الشجيرات الساقية التي امتدت على حافة السور العالي. خرجت مجموعة من بنات المدرسة برفقة راهبتين مشياً قاطعات الشارع الرئيسي ومواصلات نزول درجات باب العامود أمام زياد بمراييلهن الكحلية القصيرة التي غطت حتى الركبة وجراباتهن البيضاء المنمقة. تلك المراييل التي تختلف عن باقي مراييل بنات المدارس الإعدادية الحكومية المخططة بالأبيض والأخضر، أو الكحلية لبنات المدارس الثانوية، إذ كانت المدارس الحكومية تشترط على الطالبات ارتداء بلاطين الجينز تحت المراييل. لم تلاحق عينا رائد سيقان الفتيات اليانعة كعادة الشبان في جيله، ولا انتبه للشبان الذين بدؤوا المشي قرب سرب الفتيات، مطلقين الصفير وكلمات التعليقات المعهودة. «يا ريتني دفتر»، «امش على رمشي»، «أموت طخ»...
ماتت أصوات همسات تحرّش الشبان ببنات المدرسة، في أذني زياد، إذ قضم كعكته بعدما رشّ فوقها الزعتر المملح متخلصاً من قطعة الجريدة التي لف له بائع الكعك الزعتر بها، معلقاً بصره بالحافلة التي كان سائقها ينادي على الركاب قرب كشك المسليات والعصائر.
استقل زياد الحافلة بعدما خدر الوقوف والتعب ركبتيه، وما إن تحركت الحافلة حتى غفا حاضناً كيس الكعك والفلافل في حجره كوليد مدلل، ولم يصح إلا ويد السائق تهزه من كتفه.
«احنا على قلنديا، الباصات ممنوع تدخل، بدك تنزل تصف عالحاجز»

(٭) فصل من رواية بالعنوان نفسه تصدر قريباً.
(**): رام الله