ترجمتها عن الإنكليزيّة : هدى فخر الدّين
1- إنكليزية مُرّة
تحزُّ فيَّ لغةٌ ليست واحدةً،
فأجد هذا اللسان الإنكليزي الذي أستعمله كلّ يوم مملاً،
حتى في الشِّعر. يَحزُّ فيّ، يقطعني في منتصف الجملة،
في منتصف الشعور.

إسماعيل شموط ـــ «قَدَمٌ خضراء» (زيت على قماش، 1998)


لا أفهم هذا الصوت، أرتبك
وأقول لنفسي: فلأتجاهلْ هذه الكلمات الخاويات،
وأمشي في الشارع رافعاً يدي،
محيّياً أُناساً أعرف أني لا أعرفهم.

أمشي في شوارعَ لا أملك فيها إلّا أصداء تملكني.
تحزّ فيَّ هذه اللغة، هذا اللسان
الذي أريد أن أحبسه خلف أسناني فيصرعُني.
تتراكم جوازاتُ سفرٍ قديمةٌ وجديدةٌ

فوق كتاباتي، فيحزّ فيَّ أن أستعيد
مداخلي إلى هذه اللغة ومخارجي منها،
وما هي إلّا خطوة أولى، أقول لنفسي،
خطوة لأملكَ بعضَ هذا الصوت

وأنا المدين بكلّ شيء إلى مكان أوّل يملكني.
ليس هنا، حيث ما أملكه ليس لي، بل زمن مضى وسنوات
كثيرة نجوت بها، لأن هذا اللسان الإنكليزي يطعنني،
لأن هذا اللسان الغريب ما زال يَعدُني
بلغة.

2- ملموم
لا تهدر حبراً ولا سطراً واحداً،
لا متسعَ لكلّ هذا التفكير فيكَ
وفي سواك على هذه الصفحة:
أنتَ أنتَ، لا أنتَ
أنتَ،
كما قال شاعر قديم مرةً وظلّتْ
تُردّد بعده الأفواه،
– كم سنةً؟ – ها هي شرفتك
وهذا انتظار ربيعك يا أبا تمام

كلمتُك كثيراً ما تكونُ والعالمَ واحداً:
أنت اكتشاف المنفى الحقيقي
والنفْس تهيم وتتبناك لتبقى فيك
ملمومةً
أَحْمدُ الله على ممكنٍ
واحدٍ،
على الحجر واقفاً تحفُّ به
مرة بعد مرة
حوادثُ الدهر،
وهناك الكلمة والصوت
والصدى الذي يجمعنا
ويبقينا معاً،
كلاً في وحدته.

3- خريطة
في الجو
نَمُرُّ
فوق أماكن
أعرف أني لن أبلغها:
كلّها هنا
على الشاشة
أمامي
هنا، أمامي
حتى أراها
على الشاشة فقط

أنظر من النوافذ:
نعم
نحن فوق الغيم الآن
ولا شيءَ يَبينُ.
فوق عمّان،
نعبر
الغيم الأبيض

الآن فوق القدس:
أبحث على الشاشة
عن اللغات: أعربية
هذه الكلمات أمامي؟
لماذا..
لا أستطيع قراءتها

ربما
أقول لنفسي
ربما
أحتاج
أن أكون هناك
على الأرض
لكي
أقرأَ
الأرضَ.

4- بيت لحم وقتذاك
يسوع: نبيّ أو إله
لأنه في الورشة كان
يصنع كما صنع النجارون
وقتذاك:
كراسيَ وطاولاتٍ.
من الخشب تأتي
الكلمة،
وبما أن المرء ينزع
إلى التخفي
وراء صنيع ما،
فلا يكون نبياً أو إلهاً
بلا غطاء، بلا شيء
يشغله
ريثما تشيع الكلمة،
وبما أن المعادن لم تكن
ليعبث بها العوام
كان لا بدّ من الخشب،
ذاك اليباس الوحيد
القابل للاشتعال،
الدافعُ – كما الكلمة –
الملأَ والحيوانَ
والملاكَ ليحيدوا عن الطريق
ويهيموا باتجاه الضوء.

5- تين
أسوأ ما في الأمر كان اكتشاف شجرات التين في المدينة، تلك التي تموت أوراقها وتيبسُ أولَ ما يلمسها البَرد. أمرُّ قرب واحدة دلّني عليها أحدهم. شجرة بلا جذع، أغصان عارية فقط. وفي الصيف كذلك، لا تكون شجرة، بل أجمة، وكأنّ ثقلاً ما في الهواء يدفعها إلى الأسفل، يمنعها من أن تمتدَ وتسموَ كما يفعل التين، ذاك الذي في البال. لم أتجرّأ على تذوّق ثمراتها قط. أكثر من مرة، قطفتها وراقبت الحليب ينز لزجاً من عروقها. وحين لمسته لم يكن كثيفاً، كما توقعت. هذا كل ما في الأمر، صورة نحفظها في البال. في الخريف يبقى الجذع عارياً، الجذع الذي حمل ما يفضح الشجرة: أعجوبة أوراقها.
■ ■ ■

نعم: العالم القديم والقارة الأميركية يتباعدان بمعدل سنتمترين كل سنة. نعم، الوطن يتحرك من حيث تركته، وأنا، على الرغم من خيط الحنين، أتسارع، أسابق نفسي.
■ ■ ■

ليس إلا الذكريات: وها أنت تحمل كل لحظة أمام المرآة، تنتبه وتسهو، وحين تضيع تماماً، تصير هواءً راكداً في إناء.

6- جسر
1.
في الهواء، في الطائرة،
في تفتّح جراح مظلمة،

أمسك اثنين في يد واحدة. أيهما
سيسعفني

أمسك الأميركي الأزرق
- جواز سفري -
وهذا الشيء الآخر،
«السلطة الفلسطينية»
مذهّب،
مشوّه،
ملطخ
بلونه.

[«إلى الجسر؟»
يسأل الموظفُ الأردني،
- ذاك الرجل المجازي -
ويختم الفلسطينيَّ،
جواز
السلطة:

أهبط على الدرج الكهربائي
إلى حيث بيانو
وعازف
وتيار يأخذني.
أتقدّمٌ هذا
أم دوران؟]

2.
في التاكسي، في طريقنا إلى نقطة
الحدود،
لا أقول شيئاً.
أحدّق
في الخريفِ البليدِ
من النافذة المغطاة
بغبار أليف
ومرارة.
ما أخضرَ هذا المشهدَ،
وما أكثرَه زيتوناً!
[تحسباً لعقبة ما، أخبّئ الأميركي
الأزرق في جيبي،
تحسّباً،
لعقبة ما.
وكم كنت مخطئاً
وأنا أقلّب القديمَ والجديدَ
في قبو بيتنا في فيلادلفيا،
أقلّب القديمَ والجديدَ:
ما أقدمت عليه وما ترددت فيه،
منتظراً
وصول المغلف في البريد
– جواز السفر –
بطاقتي إلى
حياة أميركية
جديدة.

كم كنت مخطئاً حين قلت:
بعد هذا
لا بدَّ للبال أن يهدأ.]

3.
الأرض تأخذك هناك من تلقاء نفسها
ولكن الكعكة التي اقتُسِمت
تظل
تُخَبز في شمس تشرين
وتأملاتِها.
[وكلمات أبي،
أتذكرها،
تأتيني من
عالم آخرَ
بعيد
غريب:
«من عمان إلى بيت لحم»
كان يقول
«قبل كل هذا،
رحلةُ ساعتين
في السيارة»]

4.
تُظلم السماء ونحن ننتظر.
لا أعرف أريحا
إلا ساعةَ الانتظار،
متّكئاً على باصٍ
أصفر
قرب سائق ينفث
الدخان
ويشكو
قلةَ
الركاب
إلى بيت لحم.
[هنا «استراحة»،
هكذا يسمونها،
تزدحم بشاحنات
تأخذ
وتأخذ
جموعاً وجموعاً
وافدةً إلى الطرف
الفلسطيني،
بعد العبور
من باص
إلى باص،
من الأردن
إلى الطرف الإسرائيلي
فوق الجدول المنهك
ذاك الذي كان
يوماً
نهرَ الأردن.]

5.
نربط الأحزمة وننطلق
نحو المستوطنات.
تلوح من بعيد يافطة:
«القدس»
فنمضي في اتجاه آخر،
نتفادى
ونحاذر الطرقَ المستقيمة.
دائماً، مسارات ملتوية.
دائماً، سفوح وعرة.
نعلو ونهبط
إلى حيث تتبعثر القرى الفلسطينية.
ندور حول مدينتنا المقدسة،
يحرّكنا نداء وادي النار،
والصدى.
[وحالما نخلص
من بين المستوطنات
نفكّ الأحزمة،
نحرّر الجسد
المحكوم
بالخراب]

6.
جوانب الباص،
مركبتنا المتّجهة
إلى بيت لحم،
كلّها
حواسُ يقظة:
صوت المؤذّن،
جلبة الجزار،
دم وعظم،
سيارة وموقف،
محرّك مكشوف،
نسيم يحفّ
بالأذرع، يعبث بالشعر:
ثم السفح
والمنحدر، المنعطف
والمطبّ
وبعد المعبر،
في القفر
دكان حلويات
صغير.
[اليوم عند المعبر
عند النقطة
كانت تلويحةٌ، فعبرنا.
في أيام أخرى، يكون انتظار
وفي أخرى، تأخذنا
الأسئلة].

7.
في البال
أسلاك شائكة وحجارة.

[في الذاكرة
حديد صدئ،
وقضبان
خضراءُ
تورق].

8.
على جزيرة
وسط الطريق،
تصعد السيارة
المنحدر.
كيف؟
وعند مدخل
وادي النار –
موظف
يلوّح لنا
بالموت.
[هنا
ينتهي الدوران،
هنا تنتهي الطرق الملتوية
حول القدس]
نصعد التلة
وبعد موظف آخر،
وإذا كان ما زال في النهار ضوء،
تلوح لنا
«الصخرة»
ألقاً
في العيون.

9.
-ها قد اقتربنا:
أقول.
- عليكَ أن تتراجع
فلا
مخرجَ
من الطريق الضيق
إلّا إلى وراء.
- حسناً،
يقول السائق.
[نسيتُ،
نعم.
أذكّرُ نفسي
بأني نسيت]

10.
عند بوابة بيتنا الحديدية،
التي صارت خضراء الآن،
أتذكر
لونها القديم،
ترابياً باهتاً.
- توقفْ هنا، أقول له فجأة.
فيتوقف.
يأتي لي
بحقيبتي الصغيرة
أُخرِج محفظتي
لأدفعَ له
بعملة غريبة.
هنا الآن،
[أنسى
وأتذكّرُ،
وأنفضُ عني
الرياح،

أخيراً].

(*) مقتطفات من ديوان صدر أخيراً عن «دار مرفأ» في بيروت.
أحمد الملّاح شاعر من فلسطين، مقيم في الولايات المتّحدة الأميركية منذ نحو عقدين. يدرّس الكتابة الإبداعية في «جامعة بنسلفانيا». يكتب الشعر باللغة الإنكليزية، صدرت له مجموعة بعنوان «إنكليزية مُرّة» (2019) عن دار «جامعة شيكاغو» ومجموعة «حدّ الحكمة» (2023) عن «دار وينتر». القصائد المنشورة أعلاه مأخوذة من هذين العملَيْن.
هدى فخر الدين كاتبة ومترجمة من لبنان، وأستاذة في الأدب والنقد العربيين في «جامعة بنسلفانيا». صدر لها: «شمسٌ صغيرة تحت شمس ثانية» عن «دار النهضة العربية» في بيروت 2019.