ربما يلزم العالم رواية عن الولادة في زمن الموت، فما نشاهده من موت يجعلنا نطرح ذلك السؤال حول ولادة هذا العالم الذي يقبع في الظلمات. في الرواية «الكلمة الأجمل» (ترجمة محمد آيت حنا ـــ دار الآداب)، نعثر على سرد يقنعنا بأنّ الكلمة مفتاح لعالم يختبئ في اللغة. ففي آيسلندا، سئل الناس عن أجمل كلمة في لغتهم، فكان الجواب «أمّ النور»، أي القابلة في لغتنا. وأم النور هنا ليست فقط مهنة إخراج الجنين إلى الحياة، بل هي طريقة حياة تتمثل في رؤية العالم من وجهة نظر تلك التي تأتي بالأطفال إلى النور. هكذا تذهب الكاتبة الآيسلندية أدورآفا أولافسدوتير إلى منطقة النور، لتكتب عن عالم الولادة وتجعلنا نفكر في ماهية النور والوجود في هذا العالم، لتخرج هذه القابلة من مهنتها إلى طريقة تفكيره في هذا العالم. في آيسلندا كما في بلادنا، تورث مهنة القابلة من الأم إلى الابنة، فقد كانت جدة الراوية أيضاً قابلة، وأحد أسلافها الذكور كان قابلاً أيضاً وسمته «أبو النور». تذهب الرواية إلى سؤال عن المهنة التي يقوم بها الإنسان: هل تؤثر على معنى وجوده، فالراوية تكتشف أن خالتها القابلة قد كتبت مخطوطات عن النور والإنسان والحيوان، لتخلص تجربتها عبر شذرات هي أشبه بالشعر تقول: «إن أقسى تجارب الحياة هي أن يولد المرء ويأتي في المرتبة بعدها من حيث الصعوبة اعتياد النور».


يذهب أسلوب الكاتبة إلى اعتبار أنّ الرواية لا تمشي في أحداث أفقية، بل هي إطلالة على عالم القابلة من حيث الراوية وخالة أمها، وهذه الإطلالة تفترض أن الرواية ليست حكاية فقط، إنها تتميز حين تذهب بعيداً إلى طرح تلك الأسئلة التي نتجاهلها في الحياة، وتحاول أن تربط الأمور بطريقة مذهلة. ففي بيت أم النور، هناك مشكلة في الكهرباء، وفي نهاية الرواية تنوب القابلة عن صديقتها الدليل السياحي للسياح الذين يريدون التفرّج على الشفق، فتحدثهم عن النور والولادة. نتساءل هنا كم تشبه هذه الرحلة رحلة الطفل من الرحم إلى الحياة، ويبدو أنّ كثيرين يقومون بدور القابلة مجازياً ويقودونا إلى النور.
تذكّرنا الكاتبة وهي تحاول أن تذهب عميقاً في ماهية العتمة والنور، برواية «ضوء خافت» للإيطالي أنتونيو موريسكو، وهي تدور حول رجل يعيش وحده منعزلاً في مكان بعيد عن العالم، لكن في كل ليلة، ينبثق ضوء خافت في الساعة نفسها، فبدأ البطل عبر هذا اللغز بمحاورة نفسه ومحاورة الطبيعة. ربما يبدو هنا الضوء سرّاً كبيراً كما تشير الكاتبة الآيسلندية، ففي اللغة العربية نقول جملة: «ضوء في آخر النفق» لنشير إلى رحلة الإنسان المضنية في البحث عن النور، فهذه الرحلة هي حصيلة تجربة الحياة في أن تتمنى أن ترى الضوء وربما هذه هي الولادة، فالضوء هو اللغز وهو الإجابة في الوقت نفسه.
تقودنا هذه الرواية لنرى أن الشعر ليس فقط في القصائد، إنما على أفواه من هم أيضاً في مكان خاص كالقابلة، أو كما تصف الكاتبة في إحدى عناوين فصولها: «كل الأشياء مترابطة». وفعلاً، يبدو أن كل شيء مترابط في الرواية، فالقابلة كاتبة وتفكر كفيلسوفة، وهناك علاقة بين الإنسان والطبيعة والنور، حتى في طريقة كتابة القابلة لمذكراتها العشوائية وكذلك طريقة كتابة الرواية التي لا تتسلسل. تقول القابلة في مذكراتها: «الشيء لا يستتبع بالضرورة غيره، العالم مجزأ، والإنسان لا يدرك منه إلا شظايا». تسترشد الرواية إذن بما تقوله القابلة، وتتجزأ في شذرات وأحداث تبدو متصلة حين نصل إلى نهايتها.
بلد النور يحضر أيضاً في الرواية عبر قصة لوحة مريم العذراء


أما بلد النور، فيحضر أيضاً في الرواية عبر قصة لوحة مريم العذراء، فتقول الكاتبة إنّها «طفلة في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمرها، ولدت في فلسطين». هكذا تحضر فلسطين في الرواية، لكنها حضرت أكثر حين جعلتنا نفكّر بالكلمة الأجمل في اللغة العربية. ولأنها أيضاً بلد النور الذي نبحث عنه في أنفاق العتمة، النور الذي نحتاجه ليولد هذا الفجر، والنور أو الضوء الذي يملأ قصائد شعراء العالم ليرمز إلى الخلاص وأحياناً إلى الأمل، هو الإحساس بالحق والنضال من أجله. يقول جلال الدين الرومي: «ما ضرّك لو أطفأ هذا العالم ضوءه في وجهك، ما دام النور في قلبك متوهجاً؟». أما محمود درويش، فيقول في قصيدة: «لا شيء سوى الضوء»: «لا شيء إلا الضوء/ لم أوقف حصاني/ إلا لأوقف وردة حمراء من/ بستان كنعانية أغوت حصاني/ وتحصنت في الضوء». نفكّر هنا أن الضوء أكثر من قصيدة أو استعارة، فالعالم يتحصّن بالضوء وقد نجده في كلمة في داخلنا أو في رسالة سرية يهديها إلينا القدر.
هذه الرواية دعوة للتفكير والتأمل وهي رواية حديثة تصير قصتها هي سؤالها: ما هي الولادة؟ ما هو الضوء؟ ما سر وجودنا؟ لنجد أنّ الجواب الحقيقي في قلب كل واحد منّا، وربما هذا هو الضوء وهذه هي الحقيقة.