يبدو واضحاً، أن البحث، وإن كان منهجياً وحرفياً إلى درجة عالية، يبقى مسبوغاً بصاحبه، الذي ما زال مقيماً في ثنائية «اليسار واليمين»، وإن كانت هذه الثنائية في لغة فواز طرابلسي مطورة وغير كلاسيكية. في كتاب «الطبقات الاجتماعية والسطلة السياسية في لبنان» (دار الساقي) يمكن الخروج بهذا الانطباع الأول قبل الغوص في ما يصح تسميته مراجع الباحث ومعالجته لأحد أبرز الأسئلة في الدراسة: من يحكم لبنان فعلاً؟ فالباحث، وإن كان من جيلٍ يساري لم يتردد في التصدي لحملات رأسمالية متعاقبة ومتعددة الأوجه على لبنان، يعلن ـ في أكثر من محطة ـ شبه قطيعة مع الخطاب اليساري اللبناني التقليدي، محاولاً سد الثغرات الناقصة في هذا الخطاب، أو تقديمه بصورة تنحاز إلى الأبستمولوجيا على حساب الإيديولوجيا انحيازاً تاماً.
يقضي منهجه بتحديد الأزمة الطائفية وعلاقتها الحقيقية بالسلطة
كعادته، لا ينجرف فواز طرابلسي إلى السائد، ويوغل باحثاً عن أسانيد تدعم وجهة نظر فريدة لقراءة المشهد السياسي اللبناني، تقول إن الأنساق السياسيوية هنا توصل إلى خلاصة واحدة مفادها أن لا وجود لطبقة سياسية، بالمعنى المتعارف عليه شعبوياً. الطبقة السياسية في لبنان، تختزل سلطتين: السياسية والاقتصادية، بل تغطي الثانية في الأولى. صحيح أن لكل طبقة منهما وجوهاً معلنة، غير أن «الهيئات الاقتصادية»، أعلنت وبوضوح لا متناهٍ، أنها «تُطاع ولا تطيع»، عندما كاد الخيط الذي يربط الطبقتين أن ينقطع، خلال أزمة الرتب والرواتب. يبيّن البحث، انتهاء الأمر، بفرض الهيئات الاقتصادية طاعتها على الطبقة السياسية، عندما أملت تغيير رئيس لجنة برلمانية أوصت برفع الضرائب والرسوم، وفرض ضريبة على فوائد الخزينة، واستبدلته بآخر فرض التراجع عن كل هذه الإجراءات. هكذا، يتجول طرابلسي متأنياً، في «دوامة الاستغلال العام» اللبنانية، محاولاً شبك الأيادي القابضة على مفاصل السلطة في صورة لا تشوبها التباسات النظام الطائفي اللبناني. هذه الالتباسات، التي يتلطى خلفها البنك الدولي، في إحصاء «طريف» للأخير، يقول فيه إن الكلفة السنوية للخلل الناجم عن الحكم الطائفي تقدّر بـ 9% من الناتج المحلي الإجمالي، بحيث يتجاهل البنك الدولي أن الكلفة ذاتها للثالوث المسيطر على الاقتصاد اللبناني، متمثلاً بأصحاب المصارف وكبار المصرفيين والعقاريين، تفوق الخمسين بالمئة من الناتج المحلي. وطبعاً، لأن الهيئة الدولية معنية بمديونية الدولة اللبنانية، ولا تكترث بحجم المديونية إلى الناتج المحلي في العالم.
المواقف المسبقة غير موجودة في الدراسة، وعموماً، السياق الكرونولوجي الذي يسير عليه طرابلسي، من سامي الجميّل الجد، إلى سامي الجميّل الابن، مروراً بالحقبة الحريرية وشوائبها في الاقتصاد وفي السياسة، يجعلان من فهم مسألة معقدة كالسلطة وتوزعها بين السياسة والإقتصاد أمراً متاحاً. ذلك لا ينفي أن طرابلسي يسجّل ملاحظات حازمة من بعض الاعتقادات التي من مهمتها الفصل بين العاملين، والحديث هنا عن محاولة السياسيين (وهذا اتجاه عالمي) لأسطرة الطبقة الوسطى، والأهم من ذلك، ما يعتبره «توجهاً جديداً لتغيير مفهوم العدالة الاجتماعية». أخيراً، يسود خطاب جدّي، يقضي بتسييس الثقافة والحق في الاختلاف والتمايز للهويات ــ الجندرة والمثلية والإثنية والدين والقومية، منبهاً إلى أن هذا المفهوم الجديد للعدالة الاجتماعية يأخذ بأريحية تعريفها الأصلي، بما تعنيه من إعادة التوزيع الإجتماعي للموارد والثروة والدخل الأهلي بناءً على مبادئ «المصلحة العامة»، وتكافؤ الفرص والمساواة. هذا عن التيارات المدنية المساندة في الأساس لمصطلح عدالة اجتماعية، أما لبنانياً، فثمة اعتراف ضروري يجب تدوينه. ثمة بنيتان في المجتمع اللبناني: بنية طبقية وبنية طائفية، وهذا ما يحاول طرابلسي استكشافه، باحثاً في علاقات التمفصل بين الطبقتين، وفارداً مساحة واسعة لطبيعة العمل المصرفي في لبنان، ودوره في الأزمة.
بطبيعة الحال، لا يحتاج طرابلسي إلى شهادة في نبذ الطائفية، ولكن منهجه يقضي بتحديد الأزمة الطائفية وعلاقتها الحقيقية بالسلطة، إذ يستحيل علينا فهم التوازنات، والتحولات، بل الانقلابات، في علاقات القوة بين الطوائف والمذاهب، بمجرد العودة إلى الطوائف والمذاهب وحدها، هكذا كما لو أنها تعمل مستقلة عن النظام العام. يجب إدخال فعل المسارات الاجتماعية الداخلية في هذه التحولات. وهنا يضرب طرابلسي مثلين، واحد من نشأة لبنان الحديث، وآخر من لبنان المعاصر يعالج التحولات الديموغرافية والاجتماعية داخل الطائفة الشيعية، وتأثير هذه التحولات على موقعها في السلطة. وعلى القياس نفسه، يفرد طرابلسي مساحة واسعة للحديث عن الحريرية. فالأخيرة، ليست تياراً سياسياً، كما يتم التعامل معها. في الواقع، الحريرية تيار اقتصادي بواجهة سياسية. ربما هذا أوضح مثال على العلاقة بين الطبقتين.
يستحال الكتابة عن دراسة طرابلسي على نحوٍ موجز، إذ يجب قراءتها بالتفصيل. العلاقة بين الأوليغارشية التجارية ــ المالية والسلطة السياسية، ما زالت مستمرة من الاستقلال إلى الحرب، والدراسة تفصح عن هذا في أكثر من مكان، ما يفتح الشهية لانتظار المزيد من الأبحاث في هذه المسألة.