شكَّل «الربا» بوصفه رمزاً لانهيار الحضارة الغربية، موضوعاً أساسياً في تجربة الشاعر الأميركي عزرا باوند (1885-1972) جسَّدَ عبره موقفه الجذري المناهض لسلطة المال، وحكم المرابين، وسماسرة الحروب. موضوعات مركزية في نثره وشعره، ولا سيما في الأناشيد 12، و14، و15، و45، و48. تظهر كلمة الربا للمرة الأولى في قصيدته الغنائية الدرامية الطويلة «هيو سيلوين موبرلي» (1920) وهي بمثابة وداع للندن وهجاء مزدوج للمدينة بعدما أصبحت حياته فيها عقيمة بلا معنى. فهو يدين الأولويات التافهة لمجتمع يقدّر المال والحروب أكثر من الفن والحياة:«بِعُيونٍ غائرةٍ مَضَوا إلى الجَحِيمِ
مُصدِّقينَ أكاذيبَ الشُّيوخ
وعادُوا إلى وطَنِهمْ كافرين،
عادُوا لِكذْبة، عَادُوا لِكَثْرةِ الخِدَاع،
عادُوا لأكاذيبَ قَدِيمةٍ وَعَارٍ جَديد،
إلى الرِّبا العِريق المتأصِّلِ
وَإِلى الكَذَبَةِ في أماكنَ عامة».
ثم بلغ ذروته في النشيد «الخامس والأربعين» بلازمته المكررة: «بالربا»
بالرِّبا
ليسَ للإنسانِ بيتٌ من حجرٍ حصين
بالرِّبا، وهو الخَطيئةُ بحقِّ الطَّبيعة،
خُبزكُمْ، دَائماً، فتاتٌ متعفِّنٌ
بالرِّبا ما مٍنْ تخومٍ واضحةٍ
ولا يُمكنُ لأحدٍ أنْ يَجِدَ موضعاً يؤويه.
الحجَّارُ محرومٌ من حَجَرِه
وَالحائكُ ممنوعٌ من نَسِيجِهِ
بالرِّبا
لا صوفَ يصلُ السُّوقَ
ولا شياهَ تدرّ عائِدَاً بالرِّبا
الرِّبا طاعونُ ماشيةٍ، الرِّبا
يثلِّمُ الإبرةَ بيدِ الفتاةِ
ويعيقُ دورانَ مِغزلِ الحائكةِ الْمَاهرة.
عن الربا
لم تَنْشَأ كنيسة وقطعة من حَجَرِها موقَّعَة: آدم صَنَعني».

عزرا باوند في البندقية عام 1971 ـــ تصوير هنري كاترييه بروسون)


ومن اللافت أن جميع الكنائس التي امتدحها باوند في هذا النشيد شُيِّدت قبل زمن القديس بطرس (1505-1526) الذي موَّلَ بناءها عن طريق بيع صكوك الغفران، إذ رأى باوند في أسلوبها الباهظ والمتكلّف وأبعادها العملاقة تعبيراً مرئياً عن انحطاط الإيمان الكاثوليكي وتسويغ الربا في المسيحية.
يوضح في إحدى رسائله أنّ الربا ليس فقط «الفائدة الفاحشة المفروضة على القروض» بل يفهمه على أنه يحكم اقتصاد السوق بأسره، ما يؤثر على المهن والعلاقات الاجتماعية والأنشطة الفكرية وحتى على جودة الفن.
ورغم أن الربا يبدو مجرد شرّ اقتصادي، فقد توصّل باوند إلى أنّ الاقتصاد مفتاح التاريخ، وأن الإنجازات الثقافية تعتمد على الاستخدام السليم للمال. بناءً على ذلك، وجد دليلاً على الربا في المجتمع والثقافة الغربيين. وكان خلق البنوك للأموال من العدم، هو الداء الذي حاربه بجهوده في الإصلاح الاقتصادي. ورأى أنه إذا أحكمت الدولة السيطرة على الأموال عبر الائتمان، فإنّ الفوائد بدل أن تذهب إلى تلك البنوك، وتخلق ثروات فاحشة، يمكن أن تتراكم بوصفها رأس مال مشتركاً متاحاً للأشغال والخدمات العامة. بالاعتماد على الإنفاق الحكومي، فقد لا تكون هناك حاجة لفرض الضرائب، بل ربما تدفع الحكومة أرباحاً لمواطنيها. وأصبحت البنوك الخاصة هي المتهم الرئيس بالنسبة إليه، بسبب استغلالها موارد الناس، وسيطرتها على الائتمان. ولأنّ البنوك مملوكة في غالبيتها لعوائل يهودية تفرض فوائد فاحشة، رأى أنّ ارتباط «اليهودي الكبير» بالقروض الرأسمالية «أشبه بخلطة عجَّة بيض» لا أحد بإمكانه حلّ رموزها.
«المُرَابيّ الكَبِير الشَّيطان جيريون،
النموذج البِدئيّ
لأَسْيادِ تشرشل
من اللقطاءِ اليهودِ».
يقدّم باوند صورة أخرى لـ «جيريون» دانتي الذي يضع المرابين في الدرك السفلي من دائرة الجحيم السابعة. في النشيد الخامس عشر، يجعل باوند الربا «الذي يعني به الرأسمالية الحديثة» الوحش اللدود القائم على جحيمه:
«الرِّبا، الوحشُ ذو المائةِ رِجْل»
منذ حلول فترة الكساد الاقتصادي، أصبح باوند مقتنعاً بأن القوى المالية التي تسبّبت في الحرب العالمية الأولى تتعجل لإشعال فتيل حرب ثانية. ومن هنا جاءت هجماته على اليهود المرابين كونهم ممولين للحروب ومحرضين عليها:
«أنا الذي لم يؤمنْ
بأنَّ العالمَ خلقَهُ يَهوديٌّ»
من هنا أيضاً جرى تأصيل جذور «معاداته للسامية» رغم أنه دحض هذه التهمة: «لست معادياً للسامية، فإنا أميز بين اليهودي المرابي، واليهودي الذي يعمل عملاً شريفاً من أجل لقمة العيش»، لكنه من غير المجدي الانشغال بتفادي تهمة «معاداة السامية» وترك النظام النقدي العبراني سليماً، وهو أداة الربا الهائلة.
وفي موقفه من الدور الذي لعبته البنوك في تمويل الحرب العالمية الأولى والأرباح التي كانت تجنيها من المذبحة، اتفق بالكامل مع آراء كليفورد هيو دوغلاس الذي أكّد في سلسلة مقالات نشرها عام 1920 في «العصر الجديد» تحت عنوان «الديمقراطية الاقتصادية»:
«مقابل كل قذيفة تُصنع وكل قنبلة تُطلق وتدمّر، ومقابل كل طائرة تُبني وتتحطم، ومقابل المتاجر الخاسرة أو المسروقة أو الفاسدة، يصبح للمستثمر عوائد في حساباته المصرفية يسمّيها ثروة، ويفرض جني فائدة عليها بمقدار 5 في المئة، في حين أن هذا الدخل يمثل خسارة لا ربحاً، وديناً لا ائتماناً للمجتمع، وبالتالي، لا يمكن تحقيقه إلا عبر اعتبار مصلحة المستثمر موجهة بالمباشر ضد مصلحة المجتمع».
الربا حسب باوند «مناقضٌ للطبيعة»: وهذه الفكرة موجودة لدى أرسطو، الذي رأى أنّ المال هو ــ وهكذا يجب أن يكون لا غير ـــ وسيلة تبادل تحلّ محلّ المقايضة. بعبارة أخرى، المال شيء عقيم لا «يجب» أن يتكاثر بشكل طبيعي مثل الكائنات الحية. وكذلك الذهب لا ينمو، فإن زرعت ذهباً، فلن تجني حصاداً أكبر من الذهب الذي زرعته، وهو لا يفرِّخ أيضاً، حتى لو جمعت بين قطعتين منه، إحداهما على شكل الديك، والأخرى على شكل دجاجة، حسب باوند الذي يستشهد بجملة لشكسبير: «أذهبُكَم نعاجٌ وكِبَاش؟» وأخرى من حوار يرد في كتاب كاتو «الثقافة الزراعية»:
س: «ما رأيك بالربا؟»
ج: «ما رأيك بالقتل؟»
كان القتل هو الوجه الآخر للربا الذي تطور لما سمّاه «حكم الربا» أو حكم كبار المرابين الذين تحالفوا مجتمعين في المؤامرة. بنظر باوند، ليس تجّار الأسلحة من أشعلوا الحرب العالمية الثانية، بل تجّار الأموال أنفسهم الذين أشعلوا حروباً متتالية، لقرون عدة، بإرادتهم، لخلق ديون حتى يتمكنوا من التمتع بفوائدها: «خلق ديون عندما يكون المال رخيصاً للمطالبة بسداده عندما يكون ثميناً»... (كان آل روتشيلد يريدون شراء الذهب بسعر رخيص، من أجل دفع سعره إلى ارتفاع صاروخي في وقت لاحق. وبالطريقة نفسها، استفاد آل ساسون وأعوانهم من انخفاض أسعار الفضة).
العدو في الحرب هو الجهل بخطر القروض الرأسمالية


في كتابته الاقتصادية وخطاباته الإذاعية من إذاعة روما في الحرب العالمية الثانية (تصدر مختارات منها قريباً عن «منشورات الجمل» ضمن كتاب ضخم عن باوند) نبَّه صاحب «ألف باء الاقتصاد» إلى أنّ العدو في الحرب هو الجهل بخطر القروض الرأسمالية. وطالما بقي هذا الجهل ولم يرد تعريف واضح لكلمة «المال»، وظلّ تعريفه مجهولاً لدى جميع شعوب العالم، سيذهبون إلى الحروب في ما بينهم من دون أن يعرفوا السبب.
وكتب جملته الشعارية «أُمَّةٌ لا تُغْرِقُ نفسَها بالدّيُون تُثيرُ غضب المُرابين» معتبراً أنّ إيطاليا، برفضها إغراق نفسها في الديون، دفعت كبار المرابين إلى الغضب عليها. لذلك، لم تكن الحرب العالمية الثانية نزوة لموسوليني ولا لهتلر، بل فصل من مأساة طويلة (بدأت مع تأسيس بنك إنكلترا، ومع النية الصريحة المعلنة في نشرة مؤسسه باترسون الشهيرة: يستفيد البنك من الفوائد على جميع الأموال التي ينمِّيها من لا شيء)، مؤكداً على إمكانية تحقق نظام اقتصادي سليم عندما لا يكون للمال إمكانات فاحشة أو زهيدة. فقد ضاع التمييز بين التجارة والربا. وفُقِدَ الفرق بين الدَّين والفائدة. فليس المال أصل الشر بذاته، بل هو الجشع، وشهوة الاحتكار، فالقدرة على الظلم ديدن أرباب الذهب منذ فجر التاريخ. وهو ما دعا القديس أمبروسيوس لأن يهدر بصوته: «محتكرو الحصاد، ملعونون بين الناس!»
وإذ يتساءل: ألا يمكن إعادة تنظيم المجتمع على أساس مختلف؟
يرى الحل في البوذية التي تصنّف الرغبة في التملك كإحدى أسوأ المشاعر التي يميل البشر إلى الهوس بها، وترى أنّ ما يسبّب البؤس في العالم هو الدافع العالمي للإثراء. وبما أن الثروة مرغوبة، فإن الأغنياء والفقراء سيشتبكون بالأسلحة في عداوة مريرة ودائمة. هكذا سيتواصل احتدام الحروب الدولية، وتتزايد الاضطرابات الاجتماعية، ما لم يُستأصل هذا الدافع تماماً.
إنّ «نموذج الزن المتمثل في طمر ممتلكات الراهب البوذي في صندوق صغير هو احتجاجه الصامت ضد النظام السائد للمجتمع».

* شاعر ومترجم عراقي