ما من شاعر في أميركا ما بعد القنبلة الذرية، فكَّك التاريخ الرسمي للولايات المتحدة ودحض رواياته وادعاءاته وهجا أبطاله المزيفين، وأشاد بأبطاله المغمورين كما فعل بوب كوفمان (1925 -1986). صحيح أنّ معظم شعراء «البيت» قاربوا هذا الموضوع بين حين وآخر سواء بالتهكم أو بالنقد السياسي، لكن كوفمان أعلاهم صوتاً، بل أقواهم صراخاً وأكثرهم جرأة وجذرية، وأعمقهم إيغالاً سياسياً في هذا الاتجاه، فرغم الميول والأفكار اليسارية و«الأناركية: اللاسلطوية» التي يحملها من سبقوه أو عاصروه من الشعراء «البيض»، فإنّ قلة منهم تجرّؤوا على مواجهة العنصرية في أميركا. شعره خلاصة للثقافة المضادة متجسّدة في تمسكه بالثقافة الفرعية والهوية المقموعة، فتبنى التميز العرقي بديلاً من التمييز العنصري ودفع ثمن هذا الخيار فادحاً بعذاب الجسد وغربة الروح. ربما كان لاستشعاره المباشر أثر في هذا «التميز»، فكونه «أسود» جعله يستشعر عذاب الصلب، الذي عاشه في السجن والاعتداء الجسدي، أكثر ممن يرون المصلوب، أو حتى أولئك الذين يساعدونه على حمل الصليب في الطريق الشاقة إلى الجلجلة!


ولد بوب كوفمان في مهد الجاز: مدينة نيو أورليانز حيث استقر عدد كبير من المسترقِّين الذين استقدموا من أفريقيا أثناء حقبة تجارة الرقيق. بيد أن هؤلاء لم يكونوا مجرد «عبيد» أو أيدٍ عاملة في المزارع والمصانع، لكنهم بشرٌ يحملون إرثاً روحياً وفولكلوراً أصيلاً، إذ جلبوا معهم تقاليد موسيقية راسخة، تمثلت في الأغاني الحزينة الصارخة في المزارع، معبرين من خلالها عمَّا يعانونه من ظلم واستغلال حيث يحصد الفلاحون بيادر من قمح، ليذهب ريعه إلى مستعبديهم بينما لا يجنون ما يسدون به رمقهم وكثيراً ما ينام أبناؤهم جوعى.
وهكذا، فإنَّ موسيقى الجاز تعدّ تذكيراً بمجتمع قمعي وعنصري وتدين القيود المفروضة على رؤاهم الفنية وتنطوي في الوقت نفسه، عبر سمتها الارتجالية، على انشقاق عن التقاليد السائدة وانعزال عن الجماعة المتسلطة، وتمرّد على القطيعية.
يحضر الجاز بقوة، في شعر كوفمان ليعبر من خلال أجوائه وأبطاله وتاريخه، عن عالمه الأثير والمأثور وعن ثوريته الأصيلة، فموسيقى الجاز، إضافة إلى كونها ثورةً فنية، ثورة اجتماعية تدعو إلى علاقات أكثر إنسانية وتعايش طبيعي وسليم يؤمن بالاختلاف. كما تظهر قصائد كوفمان خصوصية حياته الشخصية، فشعره ارتجالي وشفاهي كموسيقى الجاز، وحزين كموسيقى البلوز، وحياته ليلية كحياة الموسيقيين السود، وهو مدمن مخدرات مثل معظم موسيقيي الجاز، وهكذا جمع بين شخصية «البيتنك» ونشوة موسيقى الجاز.
ومن المهم هنا التفريق بين تاريخ مصطلح «البيت» ومصطلح «البيتنك»، فالأول عام، يشمل معظم شعراء الجيل. أما الثاني، فـ «شخصي» يخصّ كوفمان تحديداً وهو أول من استخدمه في الشعر. فمفهومه لـ «البيت» يرتبط بالموسيقى الأفريقية، وتحديداً قرع الطبول، وعوالم الطبّالين وعازفي الجاز والبلوز السود، الذين كانوا أبرع من نظرائهم البيض. ومع هذا ظلّوا يتقاضون أجراً أقل، وينظر إليهم بعنصرية. كذلك، ارتبط تعاطي المخدرات بأشهر عازفي ومغني ذلك العصر من الزنوج: تشارلي باركر وبيلي هوليداي وسواهما. وبهذا المعنى، فإنّ «البيتس» هم أهل القَرْع والقاع (المهمشون والمعدمون السود من الفنانين والموسيقيين)
أما «البيتنك»، فهو مصطلح جرى نحته لاحقاً من لفظتي «بيت» و«سبوتنك»: أول قمر صناعي روسي أطلق إلى الفضاء الخارجي. لذا فهو تطوير أكثر تطرفاً من المصطلح السابق، إذ يعبّر عن الانفصال والابتعاد الكلي عن المجتمع والعالم الأرضي نحو فضاء خارجي، وعالم كوكبي، كما يلمِّح إلى السمة (أو الشبهة) الشيوعية التي أصبحت قرينة بشعراء ذلك الجيل، ولا سيما كوفمان الذي مثّله أحسن تمثيل في شعره وسلوكه وحياته وحتى في طبيعة زيه.
يزخر شعر كوفمان، كذلك، بإشارات واضحة لما كابده من وضعه تحت الرقابة من قبل الأمن الفيدرالي الأميركي بوصفه مُشتبهاً به في الانتماء إلى الشيوعية. وتظهر وثائق مكتب التحقيقات الفيدرالي التي نشرت بعد وفاته أنّه كان محلّ رصد، وهدفاً لتقارير حول علاقته بالحزب الشيوعي ونشاطه النقابي بين أوساط عمَّال الموانئ، وهو ما كان محظوراً في الولايات المتحدة ويعادل الخيانة العظمى.
في خضم تلك الأجواء، كتب نصّه السريالي الطويل (البيان الأبوممي) ذا الصرخة الاحتجاجية الهجائية الساخرة، وصدّره بعبارة لافتة (كتبه: بومكوف) وظل متشرداً وشبحاً لا يظهر إلا في سواد الليل لينظّم لأصدقائه من البحّارة القدامى في الحانات ليغنّي معهم حين يسكر «النشيد الأممي» وسواه من الأناشيد الشيوعية.
وإلى جانب توجهه اليساري جمع بين «الحداثة الشعبوية» والثورية السريالية وتقاليد «الزن» البوذية التي أصبحت سمةً مهيمنةً في الثقافات المضادة في الستينيات. فقد فهم السريالية على أنها تجسيد لمبدأ بروتون المتمثل في «العصيان الكامل». لكنّ «شطحات» كوفمان للسريالية أكثر ارتباطاً بالتاريخ والسياسة، فكان بحق أحد رواد «الأفروسريالية» بتعبير أميري بركة الذي أكد أنّ الأفروسريالية تفترض «أن خلف هذا العالم المرئي، عالماً غير مرئي يسعى إلى الظهور ومهمتنا الكشف عنها». لذا، فإنّ تبنّي كوفمان لـ «الوعي السريالي» أتاح له استكشافات أكثر اتساعَاً للسواد، حين يهمش هذا السواد أو يشعر بأنه مقموع تحت وطأة الثقل الساحق والمدمر لمنظومة القمع الغربية، فما هو استثنائي يتيح برهة ما رؤى تخيُّلية تعيد تشكيل ما يمكن أن يكون عليه السواد من جماليات. وهي الجماليات التي دأب على خلقها بتوظيفه للموروثات التي خلّفتها العبودية كما في قصيدة «حلم أفريقي» وعبر ربطه بين الإمبريالية والعنصرية والإبادة للسكان الأصليين. وهو أمر شائع في إرث اليسار الأدبي في فترة الحرب الباردة، وصل إلى وصف الإعدامات في أميركا بنوع من الإبادة، كإعدام الزوجين جوليوس وإيتيل روزنبرغ اللذين أدينا بتهمة التجسس لمصلحة الشيوعية. وخصّص لكارل تشيسمان الذي أدينَ بالسرقة والاغتصاب وأعدم في غرفة الغاز، نصّاً طويلاً هو كناية عن شريط تسجيلي يمزج من رعب هيتشكوك والفكاهة السوداء لشابلن ويعمد إلى السخرية من سينما هوليوود ونجومها المصنَّعين، حيث يتلاعب باسم كاريل تشيسمان، فيحرِّفه ويقلّبه على أوجه عدة. سواء الأول: كارل، وكارلو، وكارلوس، وكوريل... أو الثاني تشي، تشاي، تشيس.. إلخ. لإضفاء طابع كوزموبوليتي على شخصية تشيسمان التي نالت قضية محاكمته اهتماماً عالمياً. كما يتلاعب بالكلمات داخل النص، فيوظّف الجناس بين الغاز والجاز: «استمعوا إلى صوت الغاز على موجة...» ليخلق مفارقةً تهكمية بين موسيقى السود، التي تصنع حياة جديدة في أميركا، وبين الغاز، المستخدم في حجرات الإعدام التي وصفتها «التايمز» بأنها «آلة تنظيف صحي يضطر المجتمع المتحضر إلى ابتكارها لحماية نفسه من لوثة المجرمين المرضى نفسياً».
ما من شاعر في أميركا ما بعد القنبلة الذرية، فكَّك تاريخها الرسمي كما فعل كوفمان


كثيراً ما ردد تشيسمان أثناء المحاكمة أن القضاة مصممون مسبقاً على قتله. ولهذا قرر أن يدافع عن نفسه باستماتة، بعدما قرأ مجلدات كثيرة من كتب القانون، لهذا يشبّهه كوفمان بثور «البيسون» في حلبة مصارعة أو في براري أميركا الشاسعة. والبَيسون (الجاموس الأميركي) مرتبط برمز حرب المستوطنين الأميركيين ضد السكان الأصلين حيث أصدرت حكومة الولايات المتحدة المُستعمرة في ذروة حربها ضد الهنود الحمر، قراراً بصيد هذه الجواميس بهدف تجويعهم وإجبارهم على الاستسلام أو الموت.
«كانَ كارل تشيسمان جاموساً أميركياً زاخراً بالأجنَّة
قتلَهُ سفَّاحونا المتقيّئون،
كَان كارل تشيسمان جاموساً أميركياً، يرَعْدُ عبرَ مَرعى كاليفورنيا الكاذب
أثخنتهُ السهامُ المسمومةُ للسلطةِ»
لقد اختار كوفمان خياراً أقل ما يقال عنه إنه قاسٍ: أن يكون صوته الصراخ الصريح لمن قُمعوا وكُتمتْ أصواتهم في التاريخ الأميركي، مجسّداً الفكرة التي صاغها ابن جلدته لانغستون هيوز لـ «الزنجي الأحمر الجديد» في مسرحيته الشعرية عن «فتية سكوتسبورو» ويدمجها مع فكرة «المسيح الأسود» في الثقافة الكاريبية ليخلق صورة العذاب لبني تلك الهوية العرقية التي خرج منها ونشأ معها:
«أميركا، أَغْفرُ لكِ. . . أَغْفرُ لكِ
وأنتِ تُسمِّرين مَسيحاً أسود
على صَليبٍ مُستورَدٍ
كُلَّ ستَّةِ أسابيع».
واختار أن يُظهرُ هوية ولَوعةَ تلك «الثمار الغريبة» في الأشجار الأميركية (عنوان الأغنية للمطربة الزنحية بيلي هوليداي) كناية عن السود الذي أعدموا وعلِّقت جثثهم على الأشجار. (كانت بيلي هوليداي نفسها أحد أبطاله، إذ جرى إسكاتها ومنعت من غناء أغنيتها تلك في مسارح أميركا) لكن حين جرى إسكات كوفمان أو دفعه إلى الصمت، ظل صمته أكثر احتجاجاً مدركاً أن صرخته سيتردد صداها يوماً حتى بعد صمته الأبدي.
لقد كانت حياته بين صراخ وصمت. لكنه حتى في مدة صمته كان – كما يؤكد أصدقاؤه في سان فرانسيسكو – يختزن في نظراته صراخاً مخيفاً يواجه به العنصريين وشرطة سان فرانسيسكو الذين ربما نجحوا في دفعه إلى الصمت، لكنهم فشلوا في ترويض ذلك الاحتجاج العميق والصارخ في عينيه.

* شاعر عراقي