لعل عصا إيشانغو هي القطعة الأشد إثارة للجدل في العصر الحجري الحديث كله. وهي قطعة من عظم قرد البابون، اكتشفها في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي البلجيكي هاينزيلين J. de Heinzelin في قرية إيشانغو Ishango في ما كان يُعرف وقتها بالكونغو البلجيكية. لكنّ المنطقة تقع الآن على الحدود بين أوغندا والكونغو.يُقدر عمر القطعة بحوالي 6-8 آلاف سنة. وهناك من يرى أنها أبعد في التاريخ من ذلك. وقد عُثر في رأس القطعة على حجر كوارتز صغير، الأمر الذي دعا كثيرين إلى افتراض أن العصا ربما استُخدمت لحفر الوشوم والتاتوهات، أو غير ذلك.



غير أنّ ما أثار الجدل إنما هو الصفوف الثلاثة من الخدوش- الخطوط التي تدور حول العظمة. ويمكن القول إنّ ما كُتب عن هذه الصفوف يعادل أضعافاً مضاعفة لما كُتب عن أي قطعة أخرى من العصور الحجرية القديمة. وقد توزع ما كُتب على اتجاهين: اتجاه يقلل من قيمة القطعة، واتجاه يرى أنها تبرهن على معرفة رياضية معقّدة وخطيرة جداً.
أما الاتجاه الأول، فمنه من رأى أن الخطوط هي مجرد خدوش لتسهيل الإمساك بهذا العصا. في حين رأى آخرون أن القطعة تمثل «عصا حساب» من العصي المعروفة في أماكن كثيرة في العالم، والتي ظلت تُستخدم في أوروبا حتى نهايات القرن التاسع عشر. أما الخدوش عليها، فتذكير بعمليات اقتصادية بسيطة، مثل عقود بيع أو شراء، في حين يرى غير هؤلاء أنها ربما كانت عصا طقسية ما.
أما الاتجاه الثاني، وهو الذي حدد مسار النقاش حول القطعة، فقد انطلق من ملاحظات هاينزيلين الذي ركّز على مجموعات الخطوط المنفصلة داخل الصفوف وحاول التوصل من خلالها إلى الكشف عن نظام حسابي ما، لأرقام خطوط الأعمدة الثلاثة معاً (60 خطاً، 48 خطاً، 60 خطاً) غير معطى كبير اهتمام. فقد لفت انتباهه إلى أنّ العمود الطرفي الأول يحوي أرقاماً صمّاء فقط. بل هو يحوي الأرقام الصماء كلها بين الرقمين واحد وعشرين. عليه، وتبعاً له، فالعصا ليست أداة بسيطة الشأن. بل إنها آلة حسابية معقّدة تعتمد على معرفة رياضية عالية جداً. أو أنها بشكل ما كمبيوتر صغير. ويمكن القول إن الاتجاه الرياضي هذا، هو الذي يهيمن على دراسات عصا إيشانغو الآن.
وفي مواجهة قوى المركزية الغربية التي تقلل من إنجازات أفريقيا الثقافية، التفّ تيار واسع حول العصا فحوّلها إلى أيقونة أفريقية للرياضيات المبكرة في العصور الحجرية.
أما نحن، فلا نود أن نجادل بشأن المغزى الرياضي لمجموعات الخدوش في الصفوف الثلاثة على العصا، فهذا فوق طاقتنا. وسيكون تركيزنا على أرقام الأعمدة الثلاثة: 60-48-60 التي جرى تجاهل البحث في معناها مع أنها هي مركز العصا.

رسم هاينزيلين لصفوف الخطوط الثلاثة


عدد الخطوط في العمود الذي سنسمّيه بالأوسط، مختلف عليه. فهناك من يرى أن فيه 47 خطاً لا 48 تبعاً لعدّ هاينزيلين. أما العمودان الآخران، ففي كل واحد منهما 60 خطاً. أما عدّ ألكسندر مارشاك للخطوط، فيختلف عن عدّ هاينزيلين. وهو هكذا: 61، 47، 61. أي أنه يتفق مع أن العمود الأوسط يتكوّن من 47 خطاً لا 48 خطاً، لكنه يزيد خطاً آخر على العمودين الآخرين. بذا فعدّ هاينزيلين يساوي 168 خطاً، في حين أنه عند مارشاك يساوي 169 خطاً.
فما الذي تعنيه هذه الأرقام الثلاثة؟ لا أحد يخبرنا عن ذلك. فالنقاش تركّز حول الأرقام الصماء المفترضة. على كل حال، فأنا سأركز على هذه الأرقام. ومع أنه جرى عموماً تجاهل عدد مارشاك بشأن هذه القطعة، فأنا سأسير انطلاقاً من عدّه هو لسببين اثنين:
الأول: أنّ عدّ مارشاك لعلامات والتدوينات المتسلسلة على قطع العظام والحجارة في العصور الحجرية أثبت دوماً دقّته. وإذا كانت هناك مأثرة كبرى لمارشاك، فهي هذا العدّ. فقد حمل مجهره وأمضى سنوات في العدّ مثبتاً أن هذه العلامات ذات معنى ترقيمي روزنامي وليست خربشات بلا معنى.
الثاني: أنّ عدّ مارشاك يتفق بقوة مع فرضيتي حول سنة العصور الحجرية التي طرحتها في كتابي «سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية».
بناءً عليه، سأعالج الأرقام على أنها «61 – 47 – 61». وفرضيتي الأساسية أنّ الخدوش على العصا تمثل روزنامة بسيطة جداً مثل الروزنامات التي عالجتها في الكتاب المذكور. ويلعب الرقم 47، أي رقم العمود الأوسط، دوره على الاتجاهين. بإضافته إلى أي رقم من أرقام العمودين الآخرين، نحصل على الرقم 108: 61+47= 108. وهذا الرقم يساوي ثلث سنة الحية القصيرة المكوّنة من 324 يوماً، كما كنت بيّنت في كتابي المذكور. وهي سنة تقل بشهر واحد عن السنة الطويلة التامة، المكوّنة من 364.5 يوماً.
من ناحية ثانية، لو جمعنا رقمي العمودين الطرفيّين، لحصلنا على الرقم 122. وهذا ثلث سنة العصور الحجرية التامة. وقد بيّن من قبل أن الرقم الأصلي هو 121.5: 364.5÷3= 121.5. والذي حدث في عظة إيشانغو أنه جرى تدوير الكسر إلى رقم تام لأنه لم تكن توجد طريقة لكتابة الكسر، فحصلنا بذلك على الرقم 122. بالتالي، فهذا الرقم يساوي ثلث سنة الحيّة الطويلة التي تساوي 364.5 يوماً. أي أن الرقم يشير إلى هذه السنة.
أما جمع الرقمين 61 و 47، فسوف يعطينا الرقم 108. وهذا الرقم هو رقم سنة الحية القصيرة المكوّنة من 324 يوماً. وبما أنّ الرقم 61 مكرر مرتين، فيجب إضافته مرتين إلى الرقم 47، وهو ما يجعلنا نحصل على الرقم 108 مرة أخرى: 108+108= 216. وبضرب هذا الرقم في واحد ونصف نحصل على الرقم 324 الذي تحدثنا عنه.
بناءً عليه، فلدينا في عظمة إيشانغو روزنامة العصور الحجرية القديمة الكلاسيكية التي تعطينا الأرقام التالية:
السنة الطويلة: 364.5 يوماً.
السنة القصيرة: 324 يوماً. وهي أقل من السنة الطويلة بـ 40.5 يوماً.
ثلاثة فصول في كل فصل 121.5 يوماً. لكنه جرى تدوير الكسر فصرنا مع الرقم.
إذاً، فعظمة إيشانغو أبعد ما تكون عن كمبيوتر معقّد. إنها روزنامة بسيطة جداً لسنة العصور الحجرية المألوفة. وهي روزنامة دينية بلا شك. فالأرقام فيها تمثل الآلهة وفعاليتهم.
بناءً عليه، يتبقّى علينا أن نتحدث قليلاً عن تقسيم الخطوط الثلاثة إلى مجموعات أصغر، وهو التقسيم الذي أدى إلى اعتبار عظمة إيشانغو كمبيوتراً صغيراً. هذه المجموعات تمثل في رأيي حسابات فرعية للروزنامة التي تحدثنا عنها. وحتى لو لم نتمكن من فهمها تماماً، فإن هذه الفرضية هي المقدمة لفهمها. ولنأخذ مثالاً على ذلك العمود الأوسط وأرقامه واحداً واحداً بدءاً من اليسار:



الرقم 3: وهو يساوي أقسام السنة الكبرى المكوّنة من 364.5 يوماً. وكل قسم يساوي 121.5 يوماً.
الرقم 6: وهو الأشهر الستة لفترة بيات الماء في العالم السفلي: 6×40.5= 243 يوماً.
أما أيام نشاط الماء السفلي فهي 81 يوماً. وجمعهما معاً يعطي الرقم 324.
الرقم 4: وهو يساوي نصف السنة القصيرة المكوّنة من 8 أشهر تساوي 324 يوماً.
الرقم 8: رقم شهور السنة القصيرة التي نتحدث عنها (324 يوماً).
الرقم 9: هو رقم شهور السنة التامة الكبيرة (364.5 يوماً).
الرقمان 5 و 5: لا أعرف معنى تتابعهما. ولا أعرف لماذا قُطع الرقم الأيسر منهما إلى قطع. لكن لا بد أن يكون لهذه التقطيع معنى ما.
الرقم 7: وهذا رقم شهور البيات زائد رقم الشهر المشترك بين الفترتين وهو يساوي 283.5 يوماً.
بناءً عليه، يمكن للأرقام الصمّاء أن تكون مجرد مصادفة لا غير.

* شاعر وباحث فلسطيني