(0)لا أحد ينتبه للغريب
حين يقول في ساعة متأخرة:
أريد أن أعود إلى البيت!
(1)
لستُ هنا
ولستُ أنا طعم الحنين الأول
إلى البحر،
لغتي شجرٌ
والمسافة ثلجٌ

لوسيا ادفيرس ـــ من دون عنوان (فوتوغرافيا على ورق فني ــ 2020)


وأبيضُ هذا المساء،
يداي برد المغادر
ويداك خوف الغياب..
لا، لست أحداً
ولا ذاكرة.
(2)
الغابةُ؛
تتّسع حين تضيق جهة الغابةِ،
الغابة تلتهم الوقت،
والماءُ في كل جهة، لا يؤدي إلى ضفة أو ماء.
وحده، يكتب رسائل يقرأها لنفسه مرتين في صباحين مختلفين،
في فارق التوقيت،
لا زمن واحد للوحيد،
والصباحات جهتان
مثل نهرين خارج الغابة لا يلتقيان.
(3)
وهذا النهر؛
صديق الصباحات الوحيدة،
سلام البط المهاجر من بعيد لبعيد.
للطبيعة حزنان يا صاحبي؛
حزنٌ أبيض مثل تغريبةِ نورسٍ
وحزنٌ غراب!
(4)
جنوباً
أعبرُ، كمسافرٍ أخيرٍ
يتوقّف في قريةٍ صغيرةٍ
ينتظرُ قطار بضائع يعبر الريف
من مدينة كبيرة إلى مدينة كبيرة..
كمسافرٍ وحيدٍ
في قريةٍ صغيرةٍ
ينتظر قطاراً آخر يمرُّ،
ريثما يأخذه طريقُ الجنوبِ
لمسافتك الوحيدة!
(5)
لا أعرف أن أقول أحبُّكِ
دون أن تولد في عينيّ دمعتان
(6)
مثل يوم عاديٍّ
نمضي،
كلٌ له أسبابه ومسافاته وسبيله
حتى وأنت تنظر الآن من نافذة غيابك
ليومٍ عادي بعد المطر!
(7)
في بلدةٍ،
مثل هذه، تغفو على كتف غابةٍ
تتقن الطبيعة أعمالها
وتنذرُ العصافيرُ بعضها في العواصف
وما عليك سوى أن تنصت جيداً
وتفرّق بين صوتٍ وصوت
بين صمتٍ وصمت
وبين موتٍ وموت
فقط، أنصت جيداً
لأصوات جوقة العصافير
ثم غرّد وحيداً إن أردت!
(8)
لا أعرف بماذا كان يفكر فان غوغ
وهو يرسم زهرة الشمس
أيّ صوت ريفٍ، في روحه، يشدّه للأقاصي
بحاسّة سمعٍ مبتورة
ربما كان مثلي
يسمع بقلبه عشقاً بدائياً
كزهرة شمسٍ قديمة
في ريف بعيد.
(9)
علّمتني امرأةٌ ريفية كيف أصنع فزاعةً
في موسم الذرة
من جذعين وثياب قديمة
قلتُ لها لست فلاحاً ولا أرض لي هناك
قالت «ستحتاجها لحقل حلمك يا بني!»
(10)
لم يطلقوا عليه وحيد القرن لقرنه الوحيد
كل حياته عزلة ومهالك ومجازفات،
يعبر الممرات ذاتها،
يتمرغ في وحل الزمن،
يسهر وحيداً،
يحسب الباقي من مساءاته
وحين يخرج في الصباح
يترصّده الصيادون، وتعيش على ظهره
الحشرات والآفات والطيور العابرة
ترتع،
ثم تأكل،
ثم تتركه وحيداً،
كقرنه الوحيد.

(11)
مثل كلب أليفٍ
لعائلة مهاجرة
أنتظر كلما ذهبوا إلى أعمالهم
ساكناً،
أراقب الطريق من نافذة تطل على الشارع،
والعابرين
أحرس الباب،
والبريد،
والساعة المعلّقة على الجدار المقابل،
أراقب الوقت،
والأحذية..
ريثما يرجعون!
(12)
المزارعون طيّبون
لأنهم رفقاء الشجر والحيوانات الأليفة والماشية،
رفقاء الأرض والطين والماء،
أبناء الفجر والمواويل
والذكريات الطرية مثل زند فتاة
تشمّر أول الصبح لغسيل البارحة.

المزارعون طيّبون
لكنهم يحتفظون أحياناً ببندقية في زاوية ما،
يحتاجونها حين يعجز حصان عن الحياة،
حين تثقل ساقاه، وينكسر ظهره من الحزن،
يطلقون عليه رصاصة الرحمة وهم مغمضون.

كحصانٍ مغمض،
أنتظر مزارعاً طيباً.
(13)
عندما كنت أسكن قريباً من النهر
علّمني شابٌ من سكان البلدة الأصليين
صيد السمك بخيط وديدان مطاطية
صار صديقي،
وكل عصر نلتقي
يرمي خيطه،
ويثرثر عن الحكومة وقانون صيد البطّ
والضرائب ونساء البيض،
عينه تراقب بطة بريّة محظورة الصيد
وكلما اقتربت علقت سمكة في خيطه
كان يخرجها بسرعة،
يضعها في كيس السوبرماركت،
ويعيد خيطه للماء، ينتظر بطة بريّة أن تقترب
ذات غروب،
سهت بطة واقتربت منا،
لوى عنقها بحركة خاطفة
دسّها في كيس السوبرماركت
بعدما رمى السمك في حضني وغادر..
لم يعد للنهر من حينها..
(14)
في بلدتي..
أحياناً، ينزل الثلج مرة واحدة في نيسان،
مرة بسيطة وعابرة،
فقط ليلفت الانتباه
وكأنه يريدنا أن نقول له
«وداعاً أيها الأبيض»
ونغني:
أحياناً عندما ينزل الثلج في نيسان
لا نلبس معاطفنا الثقيلة
نترك الثلج يبلّل ذراعينا
مثل وداع باردٍ
مرة أخيرة أيها الأبيض،
ريثما نستعيد شمس أيامنا!

(15)
كل صباح يمرّ سرب غربان
من أوّل الغابة إلى جهة الشرق
ويرجعون في الغروب
في كلّ مرّة غرابٌ واحدٌ
يتأخّر عن السّرب
ويأخذ السماء كلها بجناحيه
يعبر وحيداً وواثقاً
الغراب نفسه،
أعرفه..
أعرفه من غربته!

(16)
مرت العاصفة
سقطت شجرة قديمة في شارعنا القديم
هكذا، سقطت بكل ثقلها وتعب العمر
اقتلعت فجأة من جذورها وارتمت في عرض الشارع.
سيظل مكانها خالياً، فيما تكمل بقية الأشجار حياتها
في هدوء ما بعد العاصفة.

(17)
وأعرفُ أني
لست سوى ذلك الغريب الذي
لا يتذكّره بيتٌ في آخر المطاف،
لا هدايا باسمِهِ تحتَ شجرة عيد الميلاد،
ولا حكايات الأهل عند موقد المساء،
لا شيء..
غير ركنه الباردِ
في «خاطر» الذاكرة!

(18)
وأعرف أنكِ لست هنا
ولستُ سوى رجل يكتب
ليتذكّر أن امرأة واحدة كانت ستقرأ حكايته
في حياته العادية

لست سوى رجلٍ ميتٍ
يحرس كلمات ميتة!

* الكويت