رافقني في رحلتي تلك، دليلٌ ذو وجهٍ حزينٍ، سار أمام البغلِ الذي أمتطيه، وهو يهمهمُ، ويطوِّح رأسه إلى الجانبين، لم يلتفت حين سألته، بعدما سرنا لأكثر من ساعةٍ، في الطريقِ الذي يتلوى بين تلالٍ شاهقةٍ: - متى سنصل؟
أشار بيده إلى الأمام، وقال بضع كلماتٍ لم أفهمها.
كان البغلُ يتوقَّف أحياناً، يلوذُ بظلالِ الصخورِ العملاقةِ، فيُخرجُ هو غليوناً وكيسَ تبغٍ، ويجلسُ ليدخِّن، أجلسُ أنا أيضاً، أخرجُ زمزميتي وأقدِّمها إليه، فيقول:
- لا أريد.

حسني رضوان ــ «منفى 19» (حبر وألوان مائية على ورق ـــ 31 × 40 سنتم ــ 2022)

في منتصفِ النهارِ، وصلنا إلى مفترقِ طرقٍ، رأينا علماً أسود من بعيدٍ، أشار إليه قائلاً:
- هنالك تقع بدايةُ النفقِ، الذي يؤدي إلى الشرفةِ.
وجدنا جنديين قرب العلمِ، يحملُ كلٌ منهما بندقيةً قديمةً، ردَّ أحدهما بتثاقلٍ على تحيّتي، أما الآخر فالتقط رسن البغل الذي ترجّلت منه، وربطه بعمودٍ حديدي مثبت في الأرضِ.
تقدَّمني الدليل حين دخلنا إلى النفقِ، حاملاً قنديلاً، يصدرُ عنه ضوءٌ خافتٌ وكثيرٌ من الدخانِ، سرنا ببطءٍ، وظلَّت تتردد بالإضافةِ إلى وقعِ خطانا، أصواتٌ تشبه نواح جنيّاتٍ، يمرقن بخفةٍ عن شمالنا أو عن يميننا، مع ريحٍ باردةٍ تأتي من نهايةِ النفقِ، وقد تنفّستُ بعمقٍ، حين بلغنا تلك النهاية، وقيّض لي أن أرى ضوءَ الشمسِ ثانيةً.
كانت الشرفةُ الحجريةُ التي وقفنا فوقها، تطلُّ على هضبةٍ جرداء، تمتدُّ كأنها بلا نهاية، تنتشرُ في أنحائها أطلالُ بناياتٍ مهدمةٍ، وأكواخٌ طينيةٌ، وبقايا أسيجةٍ خشبيةٍ، وأكشاكٌ بلا سقوف، وهياكلُ مركباتٍ قديمةٍ، وخنادق، وحفرٌ، وتلالٌ رمليةٌ، وبقايا آبارٍ جافةٍ، وعدا طيور متفرقة، يحلِّق بعضها عالياً ثم يهبطُ ليقترب من الأرضِ، من دون أن يحطّ عليها، وبضع أشجار صنوبرٍ جرداء، ومساحات متفرقة يكسوها عشبٌ أصفرٌ، لم أرَ ما يشير إلى وجودِ أي نوعٍ من الحياة فوق الهضبة، كان المشهدُ يمتد أمامي صامتاً، فكّرتُ أنني أرى بقايا مدينةٍ مهجورةٍ، غادرها سكانها، بسببِ حربٍ، أو إثر وباء، أو بحثاً عن حياةٍ أفضل في مكانٍ آخر، أو طردوا منها رغماً عنهم.
قلت للدليلِ:
- متى سأرى ما جئتُ من أجله؟
لم يردّ، رفع يده وحرَّك ناقوساً معلّقاً عند حافة الشرفة، وخلال لحظاتٍ خرجت من الحفرِ والخنادقِ، ومن خلفِ الجدرانِ المتداعيةِ، وبقايا الأسيجةِ والتلالِ وهياكلِ المركباتِ، حشودٌ من الرجالِ والنساءِ، كانوا عراةً، بأعمارٍ متباينةٍ وسحناتٍ مختلفةٍ، آسيويون، أفارقة، عرب، هنود، أوروبيون، سمر، بيض، سود، طوال، قصار، بدناء، نحاف، ظلّوا يركضون في أنحاءِ الهضبةِ، وهم يبكون ويصرخون، ويرددون ما يشبه التراتيل، يلطمون صدورهم، أو يركعون ساجدين، أو يتمددون كالموتى، ثم يرفعون حفنات ترابٍ، يلقون بها فوق رؤوسهم، أو يمرّغون بها أجسادهم، وهم يتلوون، كانت أصواتهم تختلطُ لتؤلِّفَ ما يشبه هديراً، يرافق وقعَ أقدامهم على الأرضِ الصخريةِ، وضربات أيديهم فوق رؤوسهم وصدورهم، تتقاطعُ مساراتهم ويصطدمُ بعضهم مع بعض، يسقطُ رجالٌ ثم ينهضون، ليكملوا ما كانوا يقومون به، وتترنحُ نساءٌ ويتهاوين على الأرضِ، لكنهن سرعان ما يتحاملن على أنفسهن ويقفن، ليركضن ثانيةً ويواصلن البكاء.
بقيتُ أتأملُ المشهدَ الذي ظلَّ يزداد ضراوةً وغرابةً ولامعقوليةً لبرهةٍ، لا أدري إن كانت طويلة أو قصيرة، تجسّدت تفاصيله أمام عينيَّ مثل حلمٍ، إن لم أقل مثل كابوسٍ، حاولتُ أن أفهم ما الذي يفعله أولئك البشر، من هم؟ بماذا كانوا يصرخون؟ بأي لغةٍ؟ أهي لغةٌ واحدةٌ؟ أم لغاتٌ شتى؟ ما الذي جاء بهم إلى هنا؟ لماذا يقومون بأفعالهم تلك؟ أيقدّمون عرضاً احتفالياً؟ أم يمثّلون مسرحيةً؟ أم يؤدّون طقوساً دينيةً؟ ها هم مجانين؟ أم مرضى منبوذون؟ أم معتقلون؟ ما هذا المكان؟ أهو سجنٌ؟ أم مستعمرةُ عقابٍ؟ أم ملجأ؟ أم ملعبٌ رياضي؟ لكنني لم أجد إجاباتٍ عن الأسئلةِ، التي ظلَّت تتوالى على ذهني، لم يكن بإمكاني أيضاً وسط الصخب والضجيج، أن أسألَ الدليلَ عمّا أراه، لم يلتفت هو إليَّ، ظلَّ يتابع ما يجري وهو يحرِّك شفتيه، كأنه يعدّ أرقاماً، أو يردّد تميمةً مع نفسه، أو يتكلم مع شخصٍ لم أكن أراه، ثم رفع يده وقرعَ الناقوس، وخلال بضع ثوانٍ اختفى جميعُ الرجالِ والنساءِ، تاركين زوابعَ من غبارٍ، سرعان ما تبددت، وبقايا أصداءٍ تلاشت تدريجياً، ليحل صمتٌ عميقٌ بدلاً منها.
في طريقِ العودةِ، سألني حين جلسنا في ظلالِ إحدى الأشجار:
- هل تتذكر الحكاية الشهيرة، «ملابس الإمبراطور»؟
أومأت برأسي كأنني أقول، نعم، فأضاف:
- الذين رأيتهم هم أحفادُ وحفيدات شعب ذلك الإمبراطور، الذي خدعه نسّاجان محتالان، فسار عارياً بين الناسِ، وحين صرخ طفلٌ، أنتَ بلا ثياب، واكتشف هو حقيقةَ الأمرِ، غضبَ وأصدرَ أمراً بمعاقبةِ كلَّ من كان في طريقِ موكبه، ثم نفاهم إلى هنا، ليعيشوا بين الصخورِ والأحراج، في أطلالِ مدينةٍ بلا اسمٍ، لم تذكرها كتبُ التاريخِ، ولم يحفل بها الجغرافيون ولا الرحّالة، يلاحقهم رعبُ الماضي وكوابيسه.
- ولكنهم ليسوا من جنسٍ واحدٍ، ولا يمثلون شعباً بعينه.
- ذلك لأن لكلِ شعبٍ من شعوب الأرض إمبراطوره، الذي خُدع، فسار عارياً في يومٍ ما، ولكن بينما تنتهي جميعُ الحكاياتِ التي تروي ما حدث بغضبِ الإمبراطورِ، فإنها لا تسترسل في ذكرِ ما حدثَ لأتباعه، لم تُشر أيٌّ منها إلى ما عُوقبوا به، ولا إلى المكانِ الذي تم نفيهم إليه، لقد ظلّوا هنا، في جزيرتنا، جزيرة المنسيين، لأنهم لا يعرفون إلى أين يذهبون، ولا ماذا سيفعلون إذا غادروها.
وقبل أن يودّعني عند بابِ النزلِ الصغيرِ الذي أقيمُ فيه، قال:
- لن أكرر ما طُلب منك، أرجو أن لا تذكر في التقريرِ الذي ستكتبه أين تقع جزيرتنا، ولا كيف وصلتَ إليها، ولا من دعاك إليها، نريدُ مواصلةَ العيشِ بسلام، لا نريد أن يغزونا الفضوليون، أو أن تلقي المراكب الغريبة بكلِ من هبّ ودبّ، عند شواطئنا.
ثم سحبَ رسنَ البغلِ، وسار أمامه ببطءٍ، حتى اختفيا في أحدِ الشوارعِ الفرعيةِ.
عليَّ أن أشير في السطورِ التاليةِ، إلى أنني لست كاتبَ قصصٍ، ولا مؤلف حكاياتٍ، بل صحافيٌ، أكتبُ مقالاتي وتقاريري دائماً، عن أحداثٍ لها أساس واقعي، وبعد تقصٍّ للتفاصيلِ المتعلقةِ بها، قد يستغرق أسابيعَ أو شهوراً، أما إذا بدا ما رويته آنفاً خيالياً، أو صعباً على التصديق، فعليَّ أن أؤكد أنني عشته لحظةً بلحظةٍ، ورأيتُ وقائعه بعينيَّ، لم أخترع شيئاً ولم ألفّقه، ولم أترك العنانَ لمخيّلتي لتحلِّق بعيداً، سأضيفُ أيضاً، أنني محرجٌ أمام قرّائي هذه المرة، عليَّ أن ألتزم بما طُلب مني، لن أذكر اسمَ الجزيرة الحقيقي، ولا موقعها، ولا كيفَ وصلتُ إليها، سأترككم مع تقريري حسب، وآمل أن تجدوا فيه ما هو مثير، وأتحرّج عن القولِ ما هو مفيد.

* العراق/ فنلندا