1 - الآن، لا أمس ولا غدأحياناً
يتمدّدُ هذا الوقت
يبتلعُ المكانَ
يرتدي وجهَ العالم
كقناعٍ...
كلعنة...

زينة عاصي ـ «مدينتي في رأسي» (موادّ مختلفة وكولاج على كانفاس ـ 120 × 120 سنتم ـــ 2011)


تبدو اللّحظةُ عملاقةً
فلا أمس يعني شيئاً
ولا غدٌ سيأتي
كما تقضي
حتميّةُ الأمورِ المنطقيّةِ...

المنطقُ
يتكسّر
في اللحظةِ العملاقةِ
كما يحدث للأشياءِ
حين تدخل بعداً زمنياً آخر
أو كما يحدثُ لأكثر مشاعرنا رقةً
حين تصبحُ ذكرى
أو كما يحدثُ لنا
حين نسقط من علوّ الحلمِ الشاهقِ
إلى هوّةٍ من الصمتِ
أو من الضجيجِ.

الآن
لا شيءَ يذكّرنا بذاك الذي كنّا عليه
لا شيءَ يوحي بما يجبُ أن نصير
لا وجعَ يُلِحُّ على دمعةٍ
ولا فرحَ يشقّ طريقَه بصعوبةٍ
في وعورةِ جبال من الانكسارات.

الآن
يمكن أن نرندحَ أغنيةً
بلا وطأةِ الإسقاط
أن نخرجَ من عمقِ الوجدانِ قصيدةً
كأننا نقرأها للتوّ
وكأنها، القصيدة، لم تسافرْ معنا
في قطارِ الخيباتِ المتتالية.

الآن
يمكن لذكرى كانت رمحاً في خاصرةِ الوقتِ
أن تطفو على سطحِه
كقاربٍ مثقوبٍ
لا يعبأ به أحدٌ
سوى الرّيح…
الآن
يمكنُ للرّيحِ
أن تُذرّي الماضيَ والآتي معاً
كغبارٍ
لا يعبأُ به أحدٌ
حتّى نحن…

الآن
يمكن لقمرٍ أن يولدَ
في الضوءِ
من رحم كلمةٍ ليس لها ماضٍ
ولا وُجهة،
كسهمٍ
ينطلقُ ويعودُ
إلى نقطةِ انطلاقه
في اللحظةِ نفسها.

الآن
يمكن لغزالٍ يعدو على عشبِ الروحِ منذ الأزل
أن يسقطَ من التعب
وألا نخشى سقوطَنا معه بعد ذلك.

الآن
يمكنُ للّغة أن تخلعَ عنها مفردةَ الذاكرة
أن تغسلَ نفسها من استعاراتٍ مبتذلةٍ
كما يغسلُ طفلٌ الترابَ العالقَ بيديه بعد اللعب…

الآن يمكن أن نرسمَ بإصبعٍ نغرزها في الرّمال
احتمالاتٍ لامتناهية
ننفيها أو نؤكّدها..
على الفور!

الآن
يمكن للسماءِ
أن تضيقَ
أو تتّسعَ
فلم يعد المدى خارجنا
ولم يعد ارتباطُنا بالمكان
سوى وهم.

ما يهمُّ فقط
أشياء قليلة باقية…
كأن تحتفظَ السماء بزرقتها
والقلبُ بنقائه
والعيون ببريقها
وأن يبقى الهواءُ حولنا
قادراً على حملِ العطر…
هي أشياء قليلة
دلالاتها ثابتة
حتى حين تختزل لحظةً واحدةً
الوجودَ بأكمله…

الآن
كلُّ شيء عدا هذا
يذوبُ في لحظة
لكثرة ما تمدّدت
لم نعد نرى أوّلها
ولا أثراً يلوح لآخرها
حتى نعيدُ به تشكيلَ الزمن
ونجيب على أسئلةٍ تشبه:
متى حدث هذا؟
متى سقط الأمسُ منا؟
متى نسينا انتظارَ الغد؟
منذ متى ونحن عالقون في لحظة؟

الأجوبةُ تتكسّر أيضاً
كالمنطق
فيما نحن نتوحّد باللحظة
حتى نصيرها
قد لا نكون سعداءَ حقاً
لكنّنا
الآن
نبدو كذلك.

2- أخلع النهار عني
حين يجيء الليلُ
حاسماً
بصمتٍ وعتمةٍ
ويسقطُ تعبُ اليومِ على السّرير
أشعرُ برغبةٍ بأن أخلعَ النهارَ عنّي…

أعلّقُ مع الفستانِ الخمريّ
كلّ غزلِ اليومِ الرديء،
وأخلعُ مع خاتمي الذهبيّ
ما علقَ في يدي
من رياءٍ
حين صافحتُ شخصاً لا أحبُّه.

وحين أنتزعُ أقراطي الطويلة
أفرغ أذنيَّ
من قصائدَ عن الحبّ
يردّدُها الجميع،
وتصيبنُي برهابِ الابتذالِ…
ومن كلماتٍ أفلتت من أحدهم
بوقاحةٍ تامّةٍ
في حديثٍ كان يجبُ أن يبقى
عابراً.

أمام المرآةِ،
أسقِطُ ابتسامتي المزيفة
كما يخلعُ المهرّج بعد الحفلِ
أنفَهُ الأحمرَ
أمرّرُ أصابعي على جلدِ وجهي
في حياديّته
كأنني أكتشفُ حقيقتَه
مجرّداً
من علاقتِهِ بالآخرين.

بحذرٍ،
أنتزعُ عدساتي اللاصقة
أرغبُ بأن أفعلَ الشيءَ نفسَه
بتلك النظرةِ المربِكةِ
التي تقاطَعَتْ مع نظرتي
ولا تزالُ تجرحُ وجهي
كنسمةٍ باردةٍ…

أمرّرُ أصابعي في شَعري
أضغطُ على رأسي
كأنني أفرِغُه من ثقلِ فكرةٍ
لم تتركْني منذ الصباح…
أصطنعُ سعالاً طويلاً
ربما خرجت كلّ الكلماتِ التي لم تُقَلْ
حرجاً،
أو قصراً في البديهة،
أو مداراةً للشعور،
وبقيت عالقةً في فمي…
كالأشواكِ
في الجلدِ الطريّ.

حين يجيءُ الليل،
أصير وحدي
أهرب من وطأةِ الضوءِ
الذي يجعلُنا أقلَّ وضوحاً
من العلاقاتِ الغريبةِ
التي تحكمُنا
من قسوةِ أفكارِنا عن الآخرين
وأفكارِ الآخرين عنا،
ومن فداحةِ الاختلاف في ما بيننا…

أهربُ من أنصافِ الصداقاتِ
وأنصافِ العداواتِ
ومن كلّ المشاعرِ التي
لا يمكنُ أن تكتملَ
ولا يمكنُ أن تختفي،
من كلّ ما «يجبُ فِعلُه»
من كلّ ما «لا يجوزُ فعلُه»…
ومن الرداءةِ أهرُبُ،
ومن التفاهةِ التي تُغرقُنا،
كسيلٍ ضحلٍ...
ومن الكراهيةِ،
ومن الحبّ أحياناً أيضاً…
من كلّ الذين ينظرون إلينا
ولا يرون سوى
خارجنا…

حين يجيء الليلُ
أصيرُ وحدي
أغرق في الصمتِ والعتمةِ
خفيفةً الآن كما أنا،
أبحثُ عن نومٍ،
بلا أحلام.

3- الجسور/ عبور وشرود
بنينا الجسورَ
لنعبرَ
إلى الضفّةِ المقابلةِ
من أيِّ شيء؛
نهرٍ،
هوّةٍ سحيقةٍ،
أو أشياءَ داخلَنا
شلّعتها الأيام،
كحبٍّ قديم،
لم يصبحْ ذكرى تماماً،
حلمٍ لم يتحقق،
ولم يعد صالحاً مع الزّمن أيضاً...
كخطأ واحدٍ
أنجبَ قبيلةً من وساوسِ النّدم،
كفرصةٍ ضائعةٍ،
كلمةِ لوم،
لحظةِ حرجٍ عابرة،
أو فكرةٍ ماضيةٍ عن أنفسِنا
نحتاجُ إلى أن نقطعَها
قبلَ أن تقطعَنا.
بنينا الجسورَ،
تصوّرنا
أنَّ الجسرَ لن يذهبَ أكثرَ من فكرةِ الوصل.
لكنَّ الجسورَ
فيما كانت تعدُّ التقاءاتِ الأمكنةِ المستحيلةِ،
صارَ لها هاجسُها الخاصُّ بالهاوية.
وفيما كانت تعيدُ ترتيبَ المسافةِ
مع العالقِ منّا بعيداً
صنعتْ لنا هاجسَنا الخاصَّ بالوصول.
والجسرُ الّذي كان سيربطُ
ضفتينِ
وحياتينِ
صار بحدِّ ذاتِه
وُجهةً
تكتظُّ بالحياة.

الشّابُ الذي تسلّقَ حافّةَ الجسرِ
لم يكنْ يريدُ أن يموتَ
كان يريدُ أن يعانقَهَ أحدُهم
ليتأكّدَ
أنّ الجسورَ قد تنهارُ
في غيابِه،
وأنَّ الهاويةَ
أبعدُ
من الضّفةِ الأخرى.

يحدُثُ أن تولّدَ الأشياءُ
أشياءَ أخرى
أجملَ منها.
هكذا صارتِ الجسورُ
أجملَ من الضّفافِ،
ودوار أن تكونَ واقفاً فوقَ الهاويةِ
أجملَ من الخطوةِ
الّتي تجتازُ بها عتبةَ منزلٍ دافئ،
وأشياؤك المعلّقةُ مع ذاك الذي كنتُه
في ماضٍ بعيد، ماضيك،
أجملَ من هذا الذي بلا ملامح
وتريدُ العبورَ إليه…

ربّما
لم نبنِ الجسورَ للعبورِ فقط
إنّما للشّرودِ بها أيضاً،
وكلُّ شرودٍ
عبور...

* لبنان