كعادتها كلّ يوم تضع في سلّتها بعض الطعام، وكتاباً يسلّيها أثناء النهار، وتعتمر قبعة قش تقيها حرارة الشمس، ثم تنطلق في جولتها الصباحية على درّاجتها توزّع البريد على بيوت القرية والجوار: رسائل نعي، حبّ، شوق... الكيس ممتلئ بخطابات لا تدري محتواها، لكنه عملها الذي ورثته من والدها قبل أن يغلبه المرض، ورثت أيضاً دراجته التي كانت كلما تعتليها كي تذهب إلى عملها، يحبطها شعور غريب يرميها على حافة الجنون.كيف لهذه الدرّاجة أن تكون مليئةً بالحيوية والحياة أكثر من أبيها؟ لماذا تخلد مقتنياتنا ونفنى نحن؟ ألا تخجل من ارتجاف أناملنا، من ابيضاض شعرنا وانحناء عَمودنا الفقري؟ ألا يزعجها الفقد حين تحضر مآتمنا؟ كيف لكل ما امتلكناه بحبّ أن يخوننا ويرمينا؟ هو لغزٌ أضافته في مخيلتها إلى عقدة الموت.
أحجيتان غريبتان، الإنسان بكل جبروته وكل ما صنعه من ثورات وما وصل إليه من علم ومعرفة يندثر، لكن أشياءه تبقى وتنتقل من يد إلى يد.. والهلاك أيضاً يؤرق ليلها، في كل مرَّة يُقال فيها إنَّ الطب انتصر وتطوّر، يهزم الموت بمنجله التصورات، والعلم، والأطباء خاطفاً الأرواح من أجساد أصحابها.

رسالة من مجهول (محفورة من بطاقة بريدية تعود لـ 1901)

أشاحت برأسها كي ترمي أفكارها داخل قمقم التناسي، تلكأت قليلاً بدرّاجتها عند مفترق طريق، هناك رسالتان لمنزلين تعرف صاحبتيهما حق المعرفة، إحداهما تترقب خبراً من ابنها المسافر بحراً كي يمتشق العلم سيفاً في جعبته، أمّا الأخرى فتنتظر زوجها الذي هاجر منذ سنين طالت ولم يعد، لحسن حظها أم لسوئه لا تدري. وبعد هجر السنين وصل خطاب منه.
أي الطريقين تسلك؟
أي درب تختار؟
شمرت عن ساعديها وأمسكت المكتوبَين بتأنٍ، أيهما يحمل غبطة؟
لو كان بيدها أن تحمل الفرح لأهل الضيعة دون الحزن لما امتنعت، لكن لا خيار لها في ما يدوّنه القدر بين السطور. كل ما تحاول فعله هو إيجاز الزمان بمسافاته الطويلة واختصار الانتظار على البشر.
توقّفت تحت شجرة لوز تحاول اتخاذ القرار المناسب، لكنها عدلت عن فكرتها ثم تابعت سيرها في درب مختلف. هناك على التل يوجد بيت قرميدي يسكنه شاعر اعتزل الحياة. منذ أمدٍ بعيد لم تأته مراسيل، لكنها اليوم فوجئت في جعبتها بمظروف مدوّن عليه كلمتان بخطٍ جميل وأنيق «إلى يامن!»
وصلت التل بعد معافرة دامت نصف ساعة، طرقت باب المنزل، انتظرت لثوانٍ قبل أن يفتح لها بمظهره العبثي.
تأمّلته طويلاً. كيف يستطيع العيش رغم كل الفوضى التي تتقمَّصه؟
- صباح الخير، لديكَ خطاب في سلتي.
- صباح النور، غريب. هل هناك ذاكرة ما زالت تحتويني؟
ابتسمت متمتمةً: ربما لديك أحدهم في مكانٍ ما..
- لقد أتيتُ إلى هذه الديار لاجئاً يطلب السلوان.. هاتي ما لديكِ.
أعطته ما أتت لأجله، لكنه ما إن لمح الخط الأنيق حتى ارتجف إلى أخمص قدميه ثمَّ رماه مبتعداً، ولسانه يلهج بصوت جهوري:
- أريد الاضمحلال بين طيات النسيان... أين الملاذ من الماضي؟
أدارت ظهرها مذهولة عائدة إلى دراجتها، وباب الشاعر أوصد للأبد في وجه الحياة. وفي الفناء بقيت رسالة مرمية يتلاعب بها الهواء تنتظر يداً تلتقطها، لتضعها في صندوق خشبي يؤويها من الزوال.

* مجدل سلم/ لبنان.