ها أنا أدخلُ إلى الحمّام مرّات عدّة في السّاعة، ولا أتبوّل إلّا قليلاً، وأحياناً لا شيء. وكلّما تبوّلت أحسسْت بحرقة. في الليل عاودتني الحرارة. أُمّي غافيةً، ظهرها إلى الوراء وسبحة الصلاة في يدها. أيقظتُها كي تعدل وضع نومها وتستلقي. لم أقلْ لها إنّ الحمّى تموج في بدني. لا أودّ أنْ أشغل بالها فيجافيها النّوم. وهي عادةً لا تنام الوقت الكافي.
من علبة «بنادول» بجانبي، أخذتُ حبتيْن وتناولتُهما. هذا الدواء من الأدوية القليلة التي يمكن الناس اللجوء إليها من دون استشارة طبيب. إذا لم ينفع فإنّه لا يضرّ شرط أخذه بمقدار محسوب. أعرفُ أنّ لكل دواء مضاعفات مؤذية، وهذه نقطة ضعف ينبغي للطبّ مواجهتها.
طوال الليل لم أنم.
برنارد بيرلان ــ «رواق المستشفى» (تيمبيرا على خشب ـــ 25.4 × 50.8 سنتم ــــ 1961)
انتابتني قشعريرة بَرْد. تكوّرتُ ورحتُ أرتجفُ ارتجاف عصفور بلا ريش تحت المطر. اللّحاف والبطّانيّتان فوقه والبطّانيّة تحتي لم تدفئْني. عجزتُ عن الذهاب إلى الحمّام كي أتبوّل. خشيت أن لا أتمالك فأفعلها في الفراش. بهدوء، تركتُ الأريكة، لففتُ بطانية عليّ بعد ثنيها ثلاث ثنيات ومشيت.
رفعت البطّانيّة إلى ساقَيَّ خوفاً من التعثّر بها. أَدْنيتُ عكّازتي فسقط طرف البطانيّة. حين وجدت صعوبة في التنقّل، وأوشكتُ أنْ أفقد السيطرة على المثانة، ناديت أُمّي. هبّت المسكينة سريعاً وساعدتْني على الوصول. انتظرتْني في الخارج.
أخبرتُها ما بي.
كانت الساعة الثالثة ما بعد منتصف الليل. أعدّت لي أُمّي فنجاناً من اليانسون. وسخّنت مياهاً سكبتها في عبوة من الكاوتشوك توضع تحت قدمَي المريض كي تدفئه. كانتْ قد جلبت العبوة من بيت القرية. الصيف يبدأ من القدمين يقول أخي جورج. وأضيفُ أنا الشّتاء أيضاً. عندما تدفأ قدماك وهما بلا جوربيْن، فهذه إشارة إلى اقتراب الصيف. والعكس يحصل لدى قدوم الشتاء.
شربتُ اليانسون وتناولتُ حبّتَي «بنادول». العبوة السّاخنة نشرتْ بعض الحرارة في بدني، فغفوت.
تخلّل الإغفاءة منامٌ أذكر منه المشهد الآتي «أختي تريز تدرس وهي قربي في الفراش المنبسط أرضاً. كان الوقت فجراً. هناك في بيتنا». هذا المشهد طالما رأيته أيّام القرية لدى ذهابي إلى الحمّام ليلاً، إذْ كان لدى تريز هوسٌ في الدرس مع طلوع الفجر، خصوصاً قبيل الامتحان.
سقى الله تلك الأيّام. اليوم الذي يمضي لا يأتي مثله.
لم تزل أُمّي نائمة. الحمّى عاودتني. بدأتُ أرتجف. حرارة العبوة تدنّت.
ذهبتُ إلى الحمّام. لم أستطع التبوّل. كلّما وقفتُ ورتّبتُ مَنامتي للخروج دهمتني الحاجة إلى التبوّل. أحاول مرّة أخرى. لا شيء. أبقى جالسةً على القعدة. هذا أفضل من الخروج والعودة. قشعريرة البرد تجتاحني. أسمعُ صوت أُمّي. تطمئنّ عليّ. بعد ربع ساعة تقريباً، خرجتْ متهالكة. ما إنْ وصلتُ إلى الفراش حتّى رجع الشعور نفسه: الحاجة إلى دخول الحمّام. هذه المرّة تبوّلت. حرقة قويّة صاحبت نزول النقاط القليلة. حالة لا تطاق.
اللّهم اِجعل النهار يأتي قبل موعده. عدتُ غير قادرة على الانتظار.
أشرقت الشمس وتوارت سريعاً وراء الغيم. يوم بارد وماطر. إذا كان الطقسُ هكذا في السّاحل، فسيكون في قرى الجبل أكثر برداً. ولا سيّما في ضيعتنا حيث الهواء الشماليّ يقصّ المسمار على قول المَثل.
حرارتي مرتفعة. تضع أُمّي الميزان في فمي. ثمّ تجذبه بعد نحو دقيقة. درجة الحرارة أربعون.
لا مفرّ من المستشفى. أتوقّع أنْ يقول جورج هذا عندما يعرف ما بي. لكنّه نائم. لا ينهض قبل التاسعة. ينام في وقت مُتقدّم من الليل. لا تجرؤ أُمّي على إيقاظه. تخاف من سَوْرة الغضب التي تنتابه في حال كهذه.
التاسعة وعشر دقائق، غادر جورج غرفته إلى الحمّام الثاني، الذي يستخدمه هو وإيلي. لدى خروجه رأى أمّي تضع يدها على جبهتي مستكشفةً درجة الحرارة.
لمّا عرف أنّ حرارتي عالية، عاد إلى غرفته، جلب هاتفه واتّصل بالطّبيبة المتخصّصة بالالتهابات. وارتأى أنْ تدخلني المستشفى لأنّ حالتي تستدعي ذلك.
وافقت الطبيبة.
لم أحتجْ أنا وأُمّي سوى دقائق معدودة للاستعداد. منذ دخولي الثاني إلى المستشفى، بتنا مُستنفرتيْن. وجميع ما نحتاج إليه في المستشفى مدى بضعة أيّام موضّب في حقيبة متوسّطة الحجم. سمّيناها حقيبة المستشفى. نأخذ أيضاً كيسيْن مملوءيْن بأغراض ضروريّة.
ما من مرّة مكثتُ في المستشفى ثلاثة أو أربعة أيام على غرار الكثير من المريضات والمرضى. وطالما تخطّيت العشرين يوماً.
كذلك ما من مرّة عولجت من مرض إلّا ظهر مرض آخر.
هل هذه أيّامي الأخيرة على الأرض؟
سؤال لا يفارق تفكيري.
في أمراضي المتتالية إشارة إلى أنّي أعيش أيّامي الأخيرة. بلغت الثّالثة والخمسين، وكلّ يوم من عمري مرّ عددته هديّة.
لم أتوقّع أنْ أعيش إلى اليوم.
كثيراً ما تذكّرتُ دهشة الأُمّ الرئيسة لراهبات النّاصرة في الأردن عندما أخبرتها عمّتي أنّي حيّة أُرزق ردّاً على سؤالها عن حالي. حدثَ ذلك قبل نحو ثلاثين عاماً. أستوعب استغراب الأُمّ الرئيسة ولا ألومها، إذ قلّما تجاوز الذين أصيبوا بمرض السكّريّ، وهم أطفال، العشرين عاماً. وكان جورج قد أخبرني عن أُخت صديق له هو الشّاعر عبده وازن، واِسمها تريز كاِسم أُختي، فارقتْ شابّةً بعدما نَهكها مرض السكّريّ.
هذا ما كان يحصل في الماضي.
اليوم، ربّما تغيّر الوضع مع تقدّم الطبّ. آملُ أنْ لا يبقى مرضى السكّريّ مهدّدين بالموت. أخيراً سمعتُ أنّ بالإمكان زرع بنكرياس. قالوا إنّ التّجارب الأولى تبشّر بالخير.
هذه الأفكار راودتني في إحدى غرف قسم الطوارئ، حيث أنتظر أنا وأُمّي موافقة «المستشفى العسكريّ» على الدخول. جورج يلاحق الأمر مع المسؤولة التي تولّت إعداد ملفّي الصحّي. بات جورج خبيراً في إنجاز التدابير المطلوبة. كثرة دخولي المستشفى علّمته ذلك. كان يفرح حين يُبلّغ بخبر الموافقة، فيأتي مُسرعاً إلينا. من عينيه حين يطلّ علينا كنتُ أعرفُ هل جاءت الموافقة أو لا. هذه الموافقة تتمّ باتّصال هاتفيّ لأنّ الحال طارئة. لكنّه مُرغم غداً صباحاً على الذهاب إلى «المستشفى العسكريّ» لاستكمال الإجراءت المعتادة، ومرّة كلّ يوميْن ليجدّد الموافقة ما دامت حالتي تستدعي العلاج.
هذه المرّة أيضاً، صُودف أنّ غرفتي في الطابق الثاني لصق الغرفة التي كنت فيها قبل أسبوعيْن.
حالما رأتنا الممرّضات رحّبن بنا. تبادلنا وبعضهنّ العناق والقُبل. مكوثنا الطويل والمتكرّر هنا وطّد الصّلة بيننا وبينهنّ. معاملتهنّ لي ولأُمّي مختلفة عن معاملتهنّ سائر المرضى. كنّ يشفقن على أُمّي، ويسعَيْن إلى تأمين الرّاحة لها، خصوصاً في الليل. لأنّها تنام على الكرسيّ بجانبي إلى الصباح. كنّ يزوّدنها ببطانيّة إضافيّة وطعامٍ، ولا يخذلنها لو طلبتْ شيئاً.
جارتي في السّرير المجاور عجوز. كانت نائمة حين دخلنا. وهنالك شابّة جالسة على طرف سريرها. بعد وقت قليل عرفنا أنّها ابنة المريضة. وعرفنا أنّ أمّها تعاني سرطاناً في رئتَيْها، وأنّ حالتها حرجة.
على الفور، رُفع كيسان من المصل على عمود قربي بعد غرز الإبرة في أحد عروق يدي. ولا داعي لتكرار الكلام على معاناتي الشديدة خلال ذلك. برغم درجة الحرارة المُتقلّبة وارتفاع منسوب السكّري، غمرتني طمأنينة فظيعة. وجودي في المستشفى يشعرني بأنّي في أمان. شعوري هذا لطالما تخلّلته مخاوف وشكوك. مرضى كُثُر دخلوا المستشفى أحياء وخرجوا منه جثثاً.
ليتني أفارق الدنيا في البيت.
لا أودّ الموت في المستشفى.
* فصل من رواية لجورج يرق بعنوان «موت متواصل» ستصدر قريباً عن «دار مختارات» و«دار تواصل للنشر» وهي الثالثة للكاتب اللبناني بعد «ليل» و«حارس الموتى».