أُصبت بسرطان القولون قبل ثلاثة وعشرين عاماً، وأجريت لي عملية، وشفيت. لكن ما أودّ أن أحدثكم عنه يتعلق بمنام رأيته بعد ليلتين من معرفتي بأنني مصاب بالسرطان. في ذلك الحلم ذهبت إلى المرحاض، فوجدت في حوضه ثلاث حيات تطل برؤوسها. لكن بشكل ما أغرق الماء اثنتين منها، أو أنهما غاصتا بإرادتهما في الماء وذهبتا. أما الثالثة، وكانت ذات عنق أصفر، فظلت في الحوض ترفع رأسها متوثّبة عدوانية. وقد أخافتني. ثم فتحت فمها، وغرزت نابها في قدمي الواقفة على أرض الحمام. ولا أعرف بالطبع كيف انتقلت الحية من حوض المرحاض كي تعض قدمي على الأرض. غرزت الحية نابها، لكنّ الناب لم يصل إلى اللحم، بل انغرز في الحفاية (الشبشب) التي أضع قدمي فيها. وتدفّق السم في الحفاية، فأحسست به بارداً يرطّب بطن قدمي، لكن من دون أن يتسرب إلى داخل جسمي.ثم ذهبت إلى المشفى وأجريت العملية، وقطعوا جزءاً من أمعائي. وفُحصت الأنسجة، فتبين أن الورم كان في نهاية المرحلة الثانية، أي أنه كان على وشك أن يدخل المرحلة الثالثة، حيث تصير إمكانية الشفاء ضعيفة.

ماغي تايلور ـــ «حالم» (طباعة نافثة للحبر على ورق عالي الجودة ــــ 38.1 × 38.1 سنتم ــــ 2003)

وحين عادني الشاعر طاهر رياض في المشفى، حكيت له قصة الحيات، وربطت بينها وبين نتيجة فحص الأنسجة. فهناك حيات ثلاث، وهناك مراحل ثلاث. غطست حيتان في الماء وذهبتا، وانقضت مرحلتان. أما الحية الثالثة الصفراء، فتمثل المرحلة الثالثة. فلاحظ طاهر أيضاً أن الورم كان على «حافة» الثالثة، وأن الحية الثالثة لدغت «الحفاية» ولم تصب اللحم، وأن هذا ليس مصادفة. أي أن الحلم لعب على التواصل اللفظي الشديد بين الحافة والحفاية. فقد جعل الحية الثالثة تحاول لدغي، لكنه لم يمكّنها إلا من «الحفاية»، بل ومن «حافة» الحفاية، أي طرفها. كما أن الفحص الطبي بيّن أن الورم وصل إلى نهاية المرحلة الثانية، ثم وقف على «حافة» الثالثة، لكنه لم يتمكن من العبور إليها، أي أنه لم يصل إلى العقد الليمفاوية. بذا، ففي الحافة تكمن رسالة الحلم.
ويمكنك، إضافة إلى ذلك، أن تلاحظ أيضاً أنّ القولون حوض داخلي للإفرازات مثله مثل حوض المرحاض. وهكذا اكتمل التشبيه. فالحلم يحكي بلغة الاستعارات والتشابيه. وهو بهذا قريب جداً من الشعر وطرائقه.
إذاً، فقد كان الحلم يشخّص لي، في الواقع، وبشكل ما، حالتي الطبية قبل العملية، وقبل فحص الأنسجة. كان يقول لي إنّ ورمك في نهاية المرحلة الثانية، وإنه يحاول الوصول إلى المرحلة الثالثة كما حاولت الحية الصفراء الثالثة، لكنها لم تنجح.
ولم أكن أؤمن وقتها بفرضية «يونغ»، التي تقول إن الأحلام رسائل عن وضع جسدك، وإن هذا الجسد يكتبها لكي تقرأها. وهو يدقّ لك جرس الإنذار بهذه الرسائل. لكنك تهمل هذه الرسائل، أو أنك لا تستطيع فكّها. وكنت أظن أن هذا الكلام نوع من تفسير الأحلام على الطريقة القديمة حيث يخبر الحلم عن الأحداث التي ستحدث في المستقبل. لكنني بعد ذلك الحلم، صرت على الأقل مستعداً لأن أسمع ما قاله يونغ.
غير أن السؤال هو: كيف نجد وسيلة ملائمة لالتقاط رسائل أجسادنا وفهمها مبكراً؟ إذ لن يفيدني مثلاً أن يكون تشخيص الحلم متوافقاً مع تشخيص الطب، إذا لم أكن أعرف بهذا التشخيص قبل ذهابي إلى الطبيب. لا ينفعني أن جسدي يعلمني، لكنني لا أعرف أنه يفعل حتى أزور الطبيب. ثم كيف نميز بين رسائل الجسد الفعلية، إن كانت هناك رسائل حقاً، وبين ألاعيب الأحلام الفانتازية الأخرى؟ فالأحلام تقدم لنا تشخيصات مستمرة لا تبدو كأنها رسائل تحذيرية قادمة من أجسادنا، بل تعليقات على أحداث قديمة، أو على مشاعر ما. وهكذا تضيع الرسائل المفترضة في بالوعة المشاهد التي لا تتوقف في الأحلام، كما تضيع الإبرة في كومة قش. ويصبح الحديث عن الرسائل بلا معنى تقريباً.
وأكثر ما يخيف الإنسان أن يكون جسده مجهولاً بالنسبة إليه، وأن كمائن خطيرة قد تكون منصوبة له داخل هذا الجسد من دون أن يدري. هذا الشعور يؤدي إلى انعدام ثقة، بل وانفصال ما، بين الذات والجسد. فالجسد لن يتبدّى كمتراس من متاريس الذات، بل كثغرة يعبر منها أعداؤها الخطرون وغير المرئيين للهجوم على هذه الذات في عقر دارها.

السقوط في الحلم
يقول باشلار في «شاعرية أحلام اليقظة» إنّ علينا أن لا نقع في وهم قناعة الحالم «بأنه عايش فعلاً الحلم الذي ينقله لنا. إنها لقناعة منقولة تقوى كلّما سرد الحلم. ولا يوجد قطعاً تماثل بين الذات التي تسرد الحلم والذات التي حلمت».
ومع أن الفرق بين الذات الحالمة والذات التي تسرد الحلم مسألة معقّدة فعلاً، فأنا لا أحب كلمات من طراز «قطعاً» في هذا السياق، فكيف نقطع في أمور لا نفهمها جيداً؟ وتجربتي الشخصية تعلمني أنني عشت الحلم في مرات عديدة بأشد مما عشت حوادث الصحو في لحظات محددة. كان الخوف في الحلم أعظم، وكانت المتعة أشد.
كان الخوف في الحلم أعظم، والمتعة أشد


ولديّ حلم حلمته منذ أربعين أو خمسين عاماً، ولا يستطيع جسدي أن يتخلّص من وطأته حتى الآن. فمرة أنني أسقط في الحلم، وكان خوفي أن سقوطي سيكسرني. لكنني في لحظة ما فكرت أنني قادر على أن أوقف السقوط ولو لثوان معدودة قبل الوصول إلى الأرض. ولو نجحت، فسيكون سقوطي غير مؤذٍ، أيّ أنه سيكون سقوطاً ثانياً مستأنفاً من مسافة قصيرة.
وبناءً على هذه الفكرة، فقد وتّرت في الحلم عضلاتي، ومدّدت ذراعيّ على مداهما كأنني مصلوب، وثبتّ رجلي في الهواء، كما أثبت أبو تمام رجليه في مستنقع الموت: «وأثبت في مستنقع الموت رجله»، فتوقف السقوط للحظات، ثم استأنفَ سقوطي حركته فكان سقوطاً خفيفاً لم يؤذني.
وإلى الآن، وبعد كل هذه السنوات، فإنّ جسدي يشعر بأن توقف السقوط للحظات، أي معاكسة الجاذبية بالإرادة، ممكن. لا أستطيع أن أقنعه بأن هذا مناقض للمنطق، وأنه لا يمكن معاكسة الجاذبية عبر توتير العضلات. ما زالت تجربة إيقاف السقوط مخزونة في جسدي ودماغي إلى الآن. وما زال عقلي الواعي غير قادر على محوها.
وهكذا، فقد فهم جسدي شيئاً لا يستطيع منطقي الموافقة عليه. فقد عاش التجربة، وأوقف السقوط المخيف للحظات، فنجا. أو قل إن عقل الحلم هو من عاش التجربة، وأقنع الجسد بها، لكن عقل الصحو لا يستطيع أن يوافق على هذا الاستخلاص لأنه لم يعش التجربة.
هناك تجارب لا تُنسى تأتينا من الأحلام. تجارب أشد عمقاً من تجارب اليقظة.

* شاعر وباحث فلسطيني