الطريق طويل جداً. وصلتُ إلى منتصف مسير التسلّق في وادي المختارة في الشوف، وشعرتُ أنني أُنهكت، وأنني أحتاج إلى طاقة تدفعني إلى نهاية المسير. كنتُ عالقةً هنا، لا أنا مع المتقدّمين في الطريق ولا أنا مع المتأخرين عن الوصول إليها. جلستُ على الأرض من شدّة الإنهاك. مددتُ قدميّ على التراب البارد الرطب وأسندتُ ظهري إلى حجر كبير بالقرب من ضفة النهر. كان يهدر بقوّة والمشاة في المسير يتقدّمون، ينظرون إليه ويكملون مسيرهم. رأيت أقدامهم، وخطواتهم، يمشون، يحفون أحذيتهم بالطين، وأنا جالسة منهكة لا قوة لي على التقدّم.لطالما شعرت، منذ صغري، أنني عالقة في منتصف الأشياء. كنتُ أتمنّى التفوّق في الدراسة ومنافسة الطلاب المتفوّقين، أن أكون معهم، في شلّتهم، ولكنني لم أنجح يوماً في الحصول على مركز بينهم. فمادتا الرياضيات والفيزياء كانتا كهذا المسير الطويل والوعر، تستنزفان جهودي في الدراسة، وبعد كل الجهد المبذول لتعلمهما لا أحصل على أكثر من درجة 13 من 20، درجة معتدلة، فلا أنا مع المتفوّقين ولا من الراسبين. أنا فقط في المنتصف مع الناجحين، الذين يكتفون بهذه الدرجات ويشكرون الله على نجاحهم في الرياضيات والفيزياء، وكأنَّ إنجازنا السنوي أن ننهي العام الدراسي من دون الرسوب في هاتين المادتين. حتى بطاقة العلامات في نهاية العام كانت تعرّفني، تحدّد لي منذ صغري أنني في درجة «الوَسَط» مع هؤلاء الذين لن يكملوا المسير إلى نهايته، لن يكونوا يوماً من زمرة المتقدّمين ولا من الراسبين المتأخرين.

فريدا كالو ــ «الحلم/ السرير» (1940)

في صف البكالوريا، درست منهاج الامتحان الرسمي ثلاث مرّات في شهرين لأحصل على درجة المتفوّقين، لكنني بقيت في منطقتي. كنتُ أحتاج إلى خمس علامات إضافيّة لأتخطى درجة «الوَسَط» وأنتقل إلى درجة «الجيّد». وكأنه قدري أن أكون في منطقة متوسطة دائماً.
درجة الوَسَط هذه طُبعت بأحرف صغيرة أسفل شهادة البكالوريا بالقرب من العلامة النهائية، كالختم النهائي الذي يصدّق حكماً بالإعدام. هذه الدرجة حدّدت لي التخصّص الجامعي، فروع الآداب جميعها وعليّ أن أختار بين أن أكون معلمة لغة عربيّة أو أجنبيّة أو أن أكون اختصاصيّة نفسيّة أو عاملة اجتماعيّة أو مترجمة، كلها اختصاصات تعيدني إلى منطقتي، إلى طبقتي الوسطى حيث أعيش منذ ولادتي. والجامعة اللبنانيّة هي فرصتي الوحيدة، فأنا ابنة بين خمسة أولاد لأبٍ يعمل موظفاً في الدولة، لا فرصة لي لدخول الجامعات الخاصَّة.
مترجمة، تخصّص اخترته من بين كل الخيارات المتاحة أمامي، فأنا أحبّ الأدب، وأحلم أن يُطبَع اسمي على رواية بترجمتي. كنت أؤمن بالأشياء المستحيلة! ظننت أنني اخترت أفضل خيار من المتاح أمامي، لم أكن أعلم أن لا شيء يغيّر القدر، ولا فرق يحدثه التخصّص الجامعي في المنطقة الوسطى، فالحصول على وظيفة بعد التخرّج لم يكن سهلاً، حتى صارت الوظيفة التي تختارني بأي شروط تفرضها عليّ هي الإنجاز.
كان عليّ النهوض، لأنني صرت مع المتأخرين في المجموعة التي خرجت معها إلى التسلق. وقفت مستندة إلى الصخرة الرطبة، شعرت بألم في ركبتيّ. لم أبلغ الثلاثين بعد، ومشكلة مفاصلي مرضٌ صاحبني منذ الطفولة. أذكر طبيب المفاصل الأخير الذي اصطحبتني أمي إليه. كنت في الصف التاسع، وقد عادت إليّ نوبات الروماتيزم، وصرت أُحمل على أيدي الجيران وأبي لأصل إلى باص المدرسة، ويعود سائق الباص ليحملني ويصعد بي إلى الصف. انقطعت السبل بوالديّ، حتى ذهبا بي إلى أمهر طبيب سمعا عنه. أذكر جسده الضخم الكبير ووجهه الأسمر البشوش وصوته الهادئ، وهو يخبر والدتي أنني لا أعاني الروماتيزم وفحوصاتي نظيفة!
قال لها: «بنتك خايفة، خايفة كتير لدرجة مش عم تقدر تمشي على إجريها، صاير معها شي؟».
ربطت والدتي الأمر بخوفي من الرسوب في الامتحان الرسميّ، وقالت إنني دائماً ما أخاف من الامتحانات المدرسية ومن كل شيء، لكنها المرّة الأولى التي يأتي خوفي هكذا. كان والداي قد انفصلا في بداية العام الدراسي وأنا وإخوتي الخمسة كنا نتنقل بينهما. في الحقيقة، كنت خائفة بشدّة من أن لا نعيش مع ماما مجدداً.
في كلّ مرة كانت أمي تأتي لاصطحابي إلى الطبيب أفرح لأنني سأراها. في كل مرّة كنت أذهب إليها في نهاية الأسبوع أتمنّى لو أنَّ الأيام لا تنتهي. لكنها كانت تنتهي، ويأتي سائق التاكسي ليأخذني وإخوتي إلى بيت والدي. فأبكي طوال طريق العودة وأشعر أن قدميّ تعجزان عن الحركة.
ما زلت خائفة من كل شيء قد أواجهه، وما زالت قدماي ترتجفان من حينٍ إلى آخر، كأنَّ الخوف مزروع في ركبتيّ. كان ذلك الطبيب صادقاً!
تقدَّمتُ في المسير ببطء، ركلتُ حجراً صغيراً، ونظرتُ إلى السماء، رأيتُها من كثافة الأشجار وأغصانها المتشابكة، زرقاء صافية. كانت هناك تلة وعرة علينا الصعود إليها لنقطع ضفة النهر ومن الضفة الأخرى، نبدأ بتسلق الطريق لنصل إلى قمّة الجبل. خيّل إليّ أنّ الطريق الذي نسلكه، لا يتوفر على خاصيّة الحذف، فلا بدّ لنا من الصعود إلى أعلى الجبل لننحدر بعدها إلى الطريق العام حيث تنتظرنا الحافلات. وكذلك أنا، لا يمكنني تخطي طريق الخوف من القصّة التي عشتها منذ طفولتي.

* بيروت/ لبنان