يُعامل التراث العربي بحذر شديد من معظم الكُتَّاب العرب، بل يتجنّب بعضهم الاشتباك معه، أو حتى الحديث عنه، ويقف خيال «ألف ليلة وليلة» حائلاً بين محاولات صنع خيال جديد أو الاشتباك معه والتمرد عليه. يتناسى البعض أن الكتابة السابقة سواء كانت تراثية أو كلاسيكية، تلزمها كتابة أخرى تشتبك معها برؤى جديدة. من خلال هذه الرؤى، تصنع الكتابة عالماً جديداً وخيالاً مغايراً لما تم الاشتباك معه. تحيلنا منصورة عز الدين في رحلة صعودها إلى «جبل الزمرد» ( دار الشروق ــ 2023)، إلى التفكير في أسئلة عدة حول جدوى فعل الكتابة نفسه: لماذا هناك رغبة تمس المرء في الحكي أو التدوين، وأيضاً هناك إسقاط من خلال حياة البطلة على المراحل التي تمر بالكاتب/ الكاتبة خلال فعل الكتابة نفسه؟

يقول إرنستو ساباتو (1911-2011) في كتابه «الكاتب وأشباحه» (المركز القومي للترجمة ــ ترجمة سلوى محمود): «منذ حوالي ثلاثين عاماً، أكّد ت.س. إليوت أن الجنس الروائي انتهى مع فلوبير وهنري جيمس، وكَرّر كُتّاب مقال مختلفون ذلك الحكم الجنائزي بشكل أو بآخر». وربما ما زال العرب يتعاملون بهذا الشكل مع كتب التراث، ومنهم حتى عز الدين نفسها في روايتها السابقة لهذه الرواية أي «وراء الفردوس» حيث كانت أيضاً تتعامل بحذر إزاء الاشتباك مع التراث عبر تفسير أحلام ابن سيرين في تلك الرواية. لكنها في «جبل الزمرد» (سبقتها طبعتان عن دارَي «التنوير» 2014/ و«المؤسسة العربية للدراسات والنشر» 2019)، تشتبك بتمرد، وتحيل الكتابة إلى فعل كونيّ ثوري من الأساس.
تفتتح عز الدين روايتها بالرد على جملة «حكاية لو كُتِبَت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر» (جملة من «ألف ليلة وليلة»)، «حسناً! فلتكن الكتابة حفراً على آماق الأبصار، فلتكن طريقاً لعماء يعمِّق الرؤية!». لم تكن روايتها حفراً على آماق الأبصار، لكنها جعلت الكتابة بالفعل طريقاً لرحلة عماء تعمّق الرؤية وتولد رؤية بديلة من خلال الجمع بين عالمين مختلفين تماماً: عالم ينتمي إلى خيال «الليالي»، وعالم آخر ينتمي إلى حياة واقعية وهي «حياة هدير» البطلة الرئيسية للرواية. عبر هذين العالمين، تُبنى حياة «هدير» على حياة «بستان». وربما هذا ما يحيلنا إلى فكرة كتابة الرواية نفسها. في الرواية تُبنى سردية على عالم ينتمي إلى كتابة التراث. أما حياة «هدير» المضطربة، فتُكملها حياة «بستان»، أي أن الكتابة تصبح وسيلة لخلق عالم بديل، أو خلق عالم تكميلي. الكتابة هنا لها أصل، لكنها لا تنسجم معه، بل تتمرد عليه، لكن بلا تكرار وإسهاب أو حتى مغالاة في الإعجاب بهذا النص، أي نص كتاب «ألف ليلة وليلة» أو أي نص تراثي في المطلق.
في معجم معاني اللغة العربية، يرتبط معنى كلمة «الثورة» ارتباطاً وثيقاً بالفعل السياسي، أي أنّه تمرد على السلطة. لا يلتفت أحد إلى أن الكتابة في داخلها ثورة، أو وسيلة إعلان احتجاج ما. في مشروع عز الدين الروائي والقصصي، ثيمة تتكرر بأشكال مختلفة عن أهمية التأريخ عبر الكتابة، بداية من عملها الروائي الأول «متاهة مريم» (ميريت 2004) حتى آخر أعمالها. لكن بعد ثورة 25 يناير 2011، حدث تغيّر كبير في صوت عز الدين الروائي. لعلّ ملامح هذا التغير ظهرت في عملها القصصي «نحو الجنون» (ميريت)، ثم اتضحت بشدة في عملها «جبل الزمرد». «هدير» بطلة الرواية تتأثر بما يحدث في المدينة من أحداث ثورة ما، أي أن عز الدين تحيلنا إلى أن الكتابة هي وسيلة تأريخ للثورة أيضاً، أو أنها نفسها فعل ثوري.
ثيمة تتكرر بأشكال مختلفة عن أهمية التأريخ عبر الكتابة


في كتابه «الكاتب وعالمه»، يقول الناقد تشارلز مورغان (1894-1958): «إن الفنان لا يجد المجتمع. إنه يمكّن الناس من أن يجدوا أنفسهم، ومن ثم، فهُم- آخر الأمر- يجدون المجتمع الذي يعيشون فيه». وهذا ينطبق على ما فعلته عز الدين في عملها «جبل الزمرد»، إذ خلقت مجتمعاً يمسّ كل من عانوا من الثورة في المدينة عبر حياة بطلة عملها «هدير» عبر استماعها إلى رواية «بستان» عنها وعن عائلتها عبر قراءة كتاب أهدته «بستان» إليها، أي أن منصورة أيضاً تحيل إلى أن فعلَي القراءة والكتابة متشاركان عبر بناء تلك الرواية. في الفصل قبل الأخير «النزوح إلى العالم»، تكتب عز الدين: «خطر لهم أن التدوين قد يكون الضمانة الوحيدة لإعادة إحياء من ماتوا، ممثَّلين في كلماتهم». وبهذا تتجاوز الكتابة أو التدوين حصرها في أفعال بعينها، تتجاوزها وتسمح عز الدين بذلك لنصها الروائي أو لكتابتها بالانفتاح على أكثر من تأويل، وأكثر من معنى. وبالعودة إلى ما قاله مورغان، قد تسنح لأي قارئ/ قارئة أن يجد كلّ منهما نفسه في هذا النص الروائي، الذي كان فقط ينقصه تقليل مساحة بعض الأشخاص الثانوية.