أكثر من دلالة توجدُ على أنَّ المطرَ يغسل الشجرَ ويطهِّرُ الوجوه. وأكثر من دلالة تشيرُ إلى أنَّ الشمسَ تدفئ العظام. أكثرُ من تطبيقٍ للفكرةِ التي تقول بسلامةِ الحواسِ، إنَّ العالمَ شاسع. دلائل كثيرة، أيها البحر، في أعماقك، تفضح قلةَ حيلتي. يدلّ بكاءُ الصغيرة على حاجتها إلى الحليب. لكنَّ العالمَ بوصفه كلاً واحداً العالم الشاسع،الذي يحوي عدداً لا متناهياً من الدلالات، هذا العالم الذي نعيش فيه، ليس دلالةً على شيء.
■ ■ ■

لا يمكن أن يطيح المرءُ بكيانه إلا إذا كان يملك الجرأة على ذلك، والجرأة تأتي قبل أن تتوقف حياته، أما إذا توقفت ولم يطح بكيانه بعد، فليس ثمة باعثٌ على الزوال، إذ بعد أن يستحيل النغمُ نشازاً، تصبح الجرأة خطراً طبيعياً، خالياً من المغامرة، خطراً أشبه ما يكون بالقدَر.
■ ■ ■

افعل شيئاً ولا تفعل كل شيء، دع الربيع يلوح بأغصانه بعيداً عن السحب المحمّلة بالأضاحي، دع الضحية تشرب الماء قبل أن تبتكر فكرتها عن العالم الآخر، دع الفصول تتعاقب وتنتهك خصوصيتك، دع الموت يتسرب في الأوردة والشرايين، دع كل شيء ولا تفعل أي شيء، كلُّ شيءٍ يتهاوى ويذوي مثل ورقة صفراء ما إن تضع إصبعك على جسدها الهش حتى تتلاشى، كلُّ شي يرافق الأشياء إلى النهايات المريرة، إلى المشاهد التي تبقى عالقة على الجدران والنوافذ والمصابيح التي تعطّلت وذوت هي الأخرى، كلُّ شيءٍ يعني أنك ماضٍ باتجاه لا يراه سواك، الطرقُ لا تنتهي. أنت تنتهي في نهاية الطريق، ثم تبدأ من رأسك طريقٌ لا تنتهي إلا برأسِ غيرك، دع كل شيء ولا تفعل أي شيء، خُذِ اليدَ المبتورة من دميةٍ ملقاة في طريق، وأكمل مسيرك دون انقطاع، لعلَّك في النهاية تعثر على النزيف. الجثة غاية الغايات. وفي الطريق إلى الجثة يقودك الدم. اغسل يدك بالدمِ من الطهارة، بدمٍ من ماءٍ، ولتصل عارفاً بالأطلال، ولتخطِئ دائماً وأنت تسدد الحصى، فلو أخطأتَ تحطمتْ مرآة القدر. وبهذا تكون قد أنقذت الفاختة، تكونُ قد فعلتَ شيئاً، ولم تفعل كل شيء .

فريد بلكاهية: بدون عنوان (حناء على جلد، 2013)


■ ■ ■

أشعلُ يدي، وأضعها في عين الظلام، لعلَّ الجثة تشتعل.
■ ■ ■

أجاور الأنهارَ رأفةً بظمأِ الخلايا، العطشُ قاتلٌ في القصيدة، أكثر منه في الجسد.
■ ■ ■

لن أكشف عن سرِّي ما حييت، فيا إلهي بأسمائك العظمى احفظ سري الأعظم!
■ ■ ■

أخيراً نثرت أزهارُ البرِّ ثمارها، أخيراً لن تحول أزهار البرِّ بين الماء وأزهار البرِّ الأخرى، أخيراً لن أضطر إلى محاربة أزهار البرّ.
■ ■ ■

مرةً نسيتُ حياتي وسافرتُ جوّالاً بدافع الحاجة إلى الفراغ، كان شكلي مرعباً، وبهيئتي، هيئة المخلب، أخِز أنظار الناسِ وبصائرهم، وأمدُّ أسرارهم بالشمس، ومن بعيدٍ ألوِّح لهم بالفضيحة. رغمَ أنها لم تكن مقصودة، بقيتُ حتى هذه اللحظة، أتعمّد نسيانَ حياتي في البيت، على الطاولة، في المكتبة، على شبّاكِ البيتونة، وفي شتى الأماكن. تحولَ الأمرُ إلى لُعبة، أتركُ حياتي في مكان قصي، وأذهب إلى الحديقة، أنشغل بتذكّر ما هو أهم، ومن ثم، تنبثق ذكراها مثل شرارة، في عشب الذاكرة. بعد كلِّ مرةٍ أنسى حياتي، يصطبغُ العالم بالذبول، تموت زهور وحشرات خلّاقة، وأشجار وارفة، تنتفي الخضرةُ وتستحيل إلى رطوبة سوداء، لا خلاص إذاً، على الإنسان أن يعرف متى تنتهي اللعبة، ينبغي أن أحافظ على حياتي، وأربطها إلى جسدي، مثل كلبة.
■ ■ ■

المرأةُ كبوةٌ لحصانٍ أصيل، الأخضرُ في العينِ ميلادٌ ليومٍ جديد، الأحمر على الشفة خطاب العِطَاشِ، المرأةُ تاريخٌ لزج، ما إن تطأه قدمٌ حتى تعلق الأخرى، ومن ثم وجود المرء بأكمله.
■ ■ ■

أحبُّك أيتها الأرض، أطعنكِ بالفسائل، أملأ جوفكِ بالبذور، وأنتظرُ - العمر كُلَّه - ميلادَ بستانٍ فسيح.
■ ■ ■

رعشةُ الشعر: كما الخائف الذي لاذَ ببيتٍ على أطراف أرضٍ نائية، فهالَه فراغ البيت، والطريق الذي خلّاه وراءه، لا العودةُ آمنة ولا البقاء، هكذا تلقّفتُ البارحةَ من صديقٍ صوراً تجمع بلبلاً ميتاً إلى كتابي، لا أنكرُ أن صديقي يكنُّ محبةً وتقديراً لشعري ولشخصي على الأقل، إلا أن الأمرَ محيرٌ ومروع. أيمكن لرعشةِ الشعرِ أن تكون قاتلةً إلى هذا الحد!

* المثنَّى/ العراق