لم أعد أذهبُ إلى المكتبة لأقرأ ولا لأكتب بل لأستعير كتاباً، أواصل تقليب صفحاته بلا تركيز، بينما يظل ذهني مشغولاً بالماكينة التي يعيد من خلالها زبائن المكتبة ما استعاروه من كتبٍ، وُضعت تلك الماكينة داخل غرفةٍ زجاجيةٍ قرب الباب الرئيس لقاعة القراءة، بينما تختفي المكائن في المكتبات الأخرى خلف جدرانٍ صماء، أراقبُ وأنا أجلسُ على الأريكة المواجهة للباب مَن يتجه إلى الماكينة، ثم أفتعل سبباً لأنهض وأتابعه حين يُلقي ما يحمله من كتب عبر الكوة التي تبدأ بها الماكينة، ثم أرى كيف تتلاحق الكتب فوق الحزام المتحرك الذي يلي الكوة كتاباً بعد آخر، قبل أن ينزلق كل منها بخفةٍ إلى الصندوق المخصص لمادته حسب الرمز الإلكتروني المثبت على غلافه: صندوق للروايات، صندوق لدواوين الشعر، صندوق لكتب السيرة، صندوق للكتب الفنية، صندوق للكتب العلمية...
متاهة مكتبة كادوكاوا (طوكيو، 22.02.2022، من صفحتها الرسمية على أنستغرام)

يأتي موظف في المكتبة كلما امتلأ أحد الصناديق فيلتقط الكتب ويضعها في عربةِ يدٍ، ويقوم بإعادتها إلى الرفوف والخزانات التي أُخذت منها، وتدريجياً صرتُ أحلم أن أتحوَّل إلى كتابٍ، لأقطعَ تلك المسافة الساحرة التي تبدأ بالكوة وتنتهي مع كتبٍ أخرى فوق رفٍّ ما.
قبل بضعة أسابيع وفي يومٍ كئيبٍ ومظلمٍ كنتُ في طريقي للخروج من المكتبة، حين دخل رجلٌ يحملُ رزمة كتب واتّجه نحو الماكينة، تسارعت دقاتُ قلبي وأحسستُ بنشوةٍ لا توصف وأنا أقفُ خلفه، أراقبه وهو يطلق كتبَه عبر الكوة، ثم أتابعها وهي تمضي بأناةٍ نحو الصناديق، لم يستغرق ذلك سوى بضع ثوانٍ ثم استدار وخرج، وقبل أن أستدير أنا أيضاً اكتشفتُ وجود إحدى موظفات المكتبة خلف الجدار الزجاجي، سألتني وهي تبتسم:
- أين الكتب التي ستعيدها؟
- لا كتب لديَّ، يعجبني فقط أن أراقبها وهي تتحرك فوق الحزام.
ولا أدري لماذا أضفتُ بينما واصلت هي التحديق في وجهي:
- حتى صرتُ أحلمُ بالتحولِ إلى كتابٍ لأقفز بخفةٍ إلى أحد الصناديق.
- ومن قال إنك لا تستطيع أن تتحول إلى كتاب؟
أشارت إلى بابٍ يقع في الجانب البعيد من القاعة واستطردت:
- افتح ذلك الباب، ستجد غرفةً صغيرةً مظلمةً، اختبئ فيها ولا تُصدر صوتاً، في الصباح ستكتشف أنك قد تحولت إلى كتاب، نعم كتاب، أليس كل إنسان في حقيقة أمره كِتاباً؟
اعتقدتُ أنها مجنونة أو أنها تمزح، نظرتُ بإمعان إلى وجهها الذي غمرته التجاعيد، وإلى عينيها الصغيرتين اللامعتين، وإلى شعرها الأبيض وقلتُ:
- ولكن ما هي مواصفات الكتاب الذي سأتحولُ إليه؟ هل سيكون قديماً أم جديداً؟ مجلداً ضخماً أم كرّاساً ببضع صفحات، بأي لغةٍ سأكون؟ لغتي هي العربية، أتحدثُ وأفكِّرُ وأكتبُ بها، فهل سأتحول إلى كتابٍ عربي؟ من سيقرؤني هنا إذا فعلتُ ذلك؟
- المهم أنك ستتحول إلى كتاب، تلك هي أمنيتك، أما الأشياء الأخرى فلا أهمية لها، حقّق حلمك حسب.
أضافت وهي ترفع صندوقاً عن الأرض:
- جرِّب فقط، ماذا ستخسر؟ ما قلتُه لك سرٌّ لم أبح به لأحد، قررتُ ذلك لأنّك مولعٌ بالكتب، أراقبك منذ وقتٍ طويلٍ حين تقف أمام الماكينة وتلاحظ كيف تعمل، عليك فقط أن تكون حذراً، لا تدع أحداً يراك وأنت تدخل الغرفة.
سرتُ وأنا أتلفّتُ إلى حيث أشارت المرأة، فتحتُ الباب ودخلتُ، لم أرَ سوى أريكةٍ متهالكةٍ، جلستُ فوقها وبدأتُ أفكِّر: هل سأبقى وحيداً أم أن هناك من سيحضر ليخبرني كيف أتحولُ إلى كتاب؟ فكَّرتُ أيضاً أن ما يحدث هو مقلب دبَّرته المرأة، ستفتحُ البابَ ومعها أشخاص آخرون، ستهتف وهي تضحك: - انظروا إلى هذا المجنون، يريد أن يغادر عالمنا ليصبح كتاباً.
ثم تطردني من المكتبة. بعد بضع دقائق شعرتُ بالنعاس فأغمضتُ عينيَّ ونمتُ، حين استيقظتُ بعد أحلامٍ غامضةٍ بدت كأنها بلا نهاية وجدتُ نفسي أقف فوق أحد الرفوف بين كتابين، كان غلافي مجعّداً بحافاتٍ ممزقةٍ وكانت أوراقي صفراً، عليها شخابيط وبقع وآثار أصابع، أصدر الكتابُ الذي يقف إلى يميني تنهيدةً ولكزني، قلتُ بصوتٍ متهدجٍ:
- أين أنا؟ ماذا حدث لجسدي؟
ردَّ من دون أن ينظر إلي:
- وماذا سيحدث لطبعةٍ من كتابٍ قديمٍ، لا أحد يريدها الآن؟
- لكنني لستُ كتاباً، أنا رجلٌ كان لديَّ حلمٌ، أن أتحول إلى كتاب.
ثم رويتُ ما حدث حتى لحظة استيقاظي وأردفتُ:
- لا أدري، هل سأظلُّ هكذا، أم سأعود إلى ما كنتُ عليه؟
نظرتُ من حولي، رأيتُ كتباً كثيرةً على الرفوف التي تواجه الرف الذي أقفُ فوقه تنظر إليَّ باستغراب، قال الكتابُ الذي يقف إلى يساري ويشبه غلافه الأمامي وجهاً مصاباً بالجُدَرِيِّ:
- كان عليك أن تتحول إلى كتابٍ عن نجمٍ رياضي أو مغنٍّ أو إلى روايةٍ بوليسيةٍ أو قصةٍ مصورةٍ للأطفال.
أردف كتابٌ كبيرٌ أُلصقت جوانبَ غلافه بشريطٍ عريضٍ بني اللون:
- تلك هي الكتب التي لا يكف القرّاء عن استعارتها.
وقال كتابٌ آخر ظلَّ ينتفض طوال الوقت ليزيح البراغيثَ التي كانت تختبئ بين صفحاته:
- كنتَ ستتمتّع بالخروج من السجن الذي حُكم علينا بالبقاء فيه، وتنزلق فوق الحزام السحري مرةً أو مرتين أسبوعياً.
استمرت الحواراتُ بيننا بعد ذلك، سمعتُ كلاماً كثيراً، بعضه منطقي وذو معنى، وبعضه الآخر لغوٌ أو مجرد كلمات تذهب مع الريح، لم يكن لدينا ما نفعله سوى الكلام، يعيدُ كل منا ما يوجد على صفحاته من كلماتٍ وجمل، أدركتُ آنذاك أن الكتب فيها أفكار ورؤى لكنها لا تفكر، إنها مخلوقاتٌ محددةٌ بصفحاتها، كما أنها تشبه البشر في أشياء كثيرة فبينها حكماء وحمقى وأشرار وأدعياء.
ثم فُتح الباب بعد وقتٍ لا أعرف أكان طويلاً أم قصيراً، ودخل أربعة أشخاص يرتدون ملابس بيضاء فضفاضة ويضعون على وجوههم أقنعةً، لا تظهر منها سوى أعينهم، بدؤوا برفع الكتب عن الرفوف ووضعها في صندوق كبير يشبه التابوت، التقطتني إحدى الأيدي وخاطبني صوتٌ يشبه صوتَ المرأة التي جعلتني أتحوَّل إلى كتاب:
- يا للأسى، لن تستطيع البقاء على هذا الرف إلى الأبد.
ثم وضعتني بين كتب أخرى داخل الصندوق الذي تداخلت الآهات والتنهدات بالبكاء والصراخ في ظلامه.
قال كتابٌ فيه مختارات من قصص خورخي لويس بورخيس:
- سيتخلصون منا، سيُلقون بنا في حاويات القمامة.
وقال كتابٌ آخر بلا غلافٍ يضم شرحاً لكتاب التاو:
- بل سيُلقون بنا إلى موقدٍ كبيرٍ، فتتحولُ أفكارنا إلى رمادٍ ودخانٍ.
وغمغم مجلدٌ يحتوي على ترجمة سويدية لكتاب الموتى المصري:
- أو ربما سيقطِّعون صفحاتنا إلى شرائط ومزقٍ، ويصنعون منها ورقاً جديداً.
لكن كتاب فن الحب لأوفيد قال وهو يمسح عينيه الدامعتين:
- سيحولوننا إلى كتبٍ رقميةٍ، ستتحول صفحاتنا إلى إشاراتٍ وأرقامٍ ورموزٍ، سنصبحُ بلا أجسادٍ، بلا ورقٍ، بلا كتابةٍ، سنتحولُ إلى أشباحٍ، نُقرأ ونُرى، ولكن لا وجود لنا.

* أسبو/فنلندا، العراق