يقول جاكوبسون «إن الموضوع الرئيسي للشعرية هو تمايز الفنّ اللغويّ واختلافه عن غيره من الفنون الأخرى، وعمّا سواه من السلوك القوليّ، وهذا ما يجعلها مؤهّلة لموضوع الصدارة في الدراسات الأدبية». ونحن عندما نقرأ الشعر، نبحث عن الجديد، عن الدهشة والمُدهِش، عن التمايز، لغةً وسلوكاً قولياً كما يقول جاكوبسون، ولكن أيضاً نبحث عن التأثير بنا نحن المتلقّين.وديوان «من مسافة صفر – محاولة أخرى» (دار فكر ـ فائز بجائزة أنطون سعادة الأدبية بدورتها الأولى 2022) للشاعر اللبناني علي الرفاعي حمل ذلك الجديد، والكثير من المدهِش. لكن الأهمّ، بالنسبة إلى المتلقّي العادي في زمن يفقد الشعر دوره ومكانته، أنّه حمل تأثيراً كان له الدور الأبرز، جعل الديوان قطعةً «شعرية» نحتاجها في زمن الشحّ الثقافي والفكريّ والشعريّ.


علي الرفاعي، ثائر بطبعه، رافضٌ للتقليد الأعمى والولاية المطلقة والسنن المفروضة، طامحٌ ببلادٍ تحتويه ومن معه من حاملي همومها، الثقافية والاجتماعية والفنية، والسياسية والاقتصادية بطبيعة الحال، وقد كان الشعر مساحته الخاصة للتعبير عن ذلك الهمّ.
قسّم الشاعر ديوانه بحسب موضوعات قصائده: «من مسافة صفر إليها» و«من مسافة صفر جنوباً»، و«من مسافة صفر أمام المرايا» وصولاً إلى «من مسافة صفر خطوة أخيرة وما قبلها»، لكنه عندما اختار العنوان الفرعيّ للديوان ككلّ، لم يخترْ واحداً من تلك العناوين. بل اختار «محاولة أخرى»، وهنا مكمن الجديّة التي تميّز بها الشاعر الشابّ، وهي اعترافه بأنه ما زال يحاول، ولم يدّعِ الوصول إلى أسلوبٍ جديدٍ أو ابتكارٍ من ناحية الشعرية، لغةً وتمايزاً وأسلوباً قولياً.
تقسيم المسافات لم يكن عبثياً، فهو يبدأه بمسافة الصفر بينه وبين الحبيبة.
تبدأ بالقراءة لتبحث عن الجديد، فتقرأ ما تظنّه عادياً بإعادة فكرة «حافية القدمين». يقول: «وحين عبرتِ – حافيةً – زجاجَ الخافقِ المكسورِ/ راقصةً على إيقاعِ موتٍ ما/ تُرى، أوذيتِ؟ هل علِقَت شظايا القلبِ في قدميكِ؟ هل أعيَتكِ بي مِزَقي؟ إذاً عذراً»، لتجدَ نفسكَ فعلاً أمام «محاولة أخرى» تأتي بالجديد المبنيّ على فكرة معروفة، فتعترف له به بوصفه جديداً حين تردِّد مع الجاحظ «الأسلوب هو الرجُل».
في المسافة الثانية، جنوباً، لا يفاجئك العنوان، من شاعر همّ الوطن عنده من الأولويات، فتتجه وإياه جنوباً باحثاً عن الجديد، فتصدمكَ القصيدة الأولى، بأنها قصيدة على الوزن العموديّ التقليديّ، على البحر البسيط، اختار أن تكون على قافية رويّها الحاء المكسورة، وهو رويّ ليس بالسهل، فتسأل نفسكَ: التقليدُ هو محاولة جديدة؟ تتبحّر في النصّ، فتجد نفسك أمام الشاعر نفسه بأفكاره نفسها، وهنا تفهم لماذا أرادَ ذلك. لقد أراد أن يثبِت، في زمن ازدحم فيه القاعُ بمدّعي كتابة الشعر، الذين يدّعون، إلى جانب ادعائهم بأنّ ما يصفّونه من كلام إلى جانب آخر شعراً، بأنهم لا يكتبون الشعر العموديّ إيماناً منهم بضرورة الحداثة، وهم في الحقيقة لا يفقهون من موسيقى الشعر العربيّ العريقة شيئاً، ليأتي ردّ الرفاعي، محاولتي الجديدة هنا هي التقليد المفقود في زمن فُقِد فيه الكثير من الأصالة والتجذُّرِ والارتباط بتاريخ بلادنا.
قلقُ الذات الحائرة يظهر لدى الشاعر في المسافة الثالثة، أمام المرايا، وهو الذي كما سبق وذكرنا يحاول، ومحاولاته هنا مرتبطة بكلّ ما يقلق المثقّف الحقيقيّ، حامل الهموم الحقيقية، فتكون البلاد والنفس وخباياها مواضيع لمراياه، وهنا لا بدّ من إيراد ما لا يدهشنا، لأنك حين تقرأ للرفاعي لن تستغرب بحثه الدائم، لكن ليؤكّد شكوكك، وشكوكه حين يقول: «بحرٌ يفتّش عن مداهْ/ صوتٌ يفتّشُ عن صداهْ/ كلٌّ يفتِّشُ عن أناهْ/ وأنا أُفتِّشُ مثلَ دوريٍّ عجوزٍ عن إله». يؤكّد لك هذا المثقّف بأنّ الرفضَ إنجيله، على حدّ قول أدونيس. فتأتي قصيدة الـ«تهويمة» لتؤكّد اعترافه بأنه ما زال فتى يبحث، رافضاً «اليقين» المتوارث: «سيمرُّ كونٌ فوضويٌّ في مخيّلة الفتى فتُشيرُ لي: رتِّبهُ... اِزرَعْ موجَتَين بجانبِ البئرِ القديمةِ/ ضَعْ قليلاً من بُذورِ الشَّكِّ في خلدِ السؤالِ/ وعلِّقِ القمرَ الشَّريدَ على جِدارِ الـ (ما يُرام)».
فاز الديوان بجائزة أنطون سعادة الأدبية


في مسافة «فوضى» التي يبدو بأنها كُتبت في زمن ثورة تشرين، تقرأ الكثير مما تظنه فوضى لكنها الفوضى المنظّمة من قِبَل شاعرنا، والفوضى التي نظّمها مَن تـمّت الثورة ضدّهم، حتى استوعبوها وروّضوها. ولعلّ أبرز النصوص توهّجاً في ديوانه هو الـ «لا» وطن ومنه هذا المقطع: «مرَّ الجِياعُ على الجياعِ إلى الجِياع/ ليَنهشوا ما قد تبقّى فوق صدرِ الأرضِ من عُشبٍ وماءْ/ جلسَ الطُّغاةُ مع الطُّغاةِ تصافَحوا وتصالَحوا/ هذي بِلادٌ من بغاءْ/ هذي بِلادٌ من كراماتٍ تُباعْ/ وطنٌ تحاصرهُ الضِّباعْ/ .../ ماذا إذن؟!/ ما أوحَشَ المكانْ/ ما أرخصَ الإنسانْ».
تتوالى المسافات، «إلى الطفّ»، «قبل أن يأتي النهر»، «نقرٌ سريع على سقف البال»، فتكون النقرات التسع عميقة تؤكّد محاولة الشاعر القلِقة للوصول إلى ما لم يعرفه ولم نعرفه، على الأسلوب نفسه، والمواضيع الملتزمة نفسها، وينهي ديوانه بالمسافة الأخيرة «خطوة أخيرة، وما قبلها»، وتكون القصيدة الأخيرة في هذه المسافة «مَن يغلِق الآنَ هذا القلق» تتويجاً لمحاولة الشاعر الجديدة في ديوانه، ليحمّلها عُصارة ما وصلت إليه تجربته، ويؤكّد على قلقه الذي لا يعرف له نهاية: «كنصفِ إلهٍ يوضِّبُ نصفَ الوجودِ ويشدو: تباركتِ اللحظةُ الزائلةْ/ أوضِّبُ، حين أحاولُ إنهاء هذي القصيدة، صمتي/ وصوتاً غريباً/ فمن يُغلِق الآن هذا
القلق؟!».
وقبل الخِتام، لا بدّ من الرجوع لصاحب الجائزة التي فاز فيها الديوان، أنطون سعاده الذي قال «الأدب هو حصول ثورة روحية مادية، اجتماعية، سياسية، تغيّر حياة شعب بأسره». أما الختام هنا، فسيكون بمقطع صغير من ديوان الشاعر، فيه دعوةٌ لعدم الاستسلام مهما توالت الخيبات في بلادنا: «وإذا فقدتَ الدربَ يوماً/ لا تُفكِّرْ بالوراءْ/ فلا دروبَ إلى الوراءِ/ كُنِ الأمامْ».