في رحلته الشهيرة إلى الجزيرة العربية، وفي طريقه إلى حائل، مرّ الرحّالة الفرنسي شارل هوبر على «غدير المكتّبة» وصخرته في منطقة تيماء في آذار (مارس) 1884 ووصفها لنا كما ينقل «فريق الصحراء» عنه: «نقوش المكتّبة موجودة على الجدران الشرقية والغربية لصخرتين تمتدان من الشمال إلى الجنوب، الفاصل بينهما 30 متراً، على شكل شارع. لذلك، فإن الجدران ذات النقوش يواجه بعضُها بعضاً. تلك الموجودة في الغرب احتفظت بوضوحها بشكل أفضل من تلك التي تواجه الشرق، وهي أكثر عدداً. يقع الغدير بين الاثنين أسفل الهضبة الشرقي ويبلغ عرضه 3 أمتار وطوله حوالي 10 أمتار... تكثر رسوم الإبل بالحجم الطبيعي، حيث وجد أن بعضها يحتوي على حدبة يزيد ارتفاعها عن متر واحد فوق النقطة التي يمكن للمرء أن يصل إليها بيده، وخلص رفاقي البدو إلى أن هذه الرسومات تعود لبني هلال».



ورسم لنا هوبر حفراً على الصخرة كأنه يمثل إلهاً بقرنين، كما رسم ثلاثة نقوش حوله اعتقد في ما يبدو أنها على علاقة بهذا الإله. ويعتقد كثيرون أن هذا الإله هو الإله «صلم» الذي عرفنا عنه من مسلّة تيماء الشهيرة.
وبعد ما يقرب من 150 سنة، أعاد «فريق الصحراء» السعودي اكتشاف المشهد الذي رسمه هوبر، وصوّره مشكوراً لنا. وبذا صار بإمكاننا أن نقارن بين رسم هوبر وبين صورة النقش الأصلي. وأدناه إلى اليسار رسم هوبر وبجانبه تتبعي لصورة الإله والنقوش التي حوله.



ويتضح من المقارنة بين الصورتين ثلاثة أمور:
أولاً: أن النقش الذي يظهر في أسفل وجه الإله امَّحى ولم يظهر في صورة «فريق الصحراء». لكن يمكن عبر التدقيق في صورة «فريق الصحراء» رؤية ظلال لبعض حروفه. بذا يمكن الاستنتاج أنّ النقش قد طُمس بسبب قربه من مستوى الأرض، الذي يعرّضه لتخريب الإنسان والحيوان والتعرية الطبيعية.
ثانياً: أنّ هوبر أزاح النقش في أعلى يسار الوجه قليلاً من مكانه، ووضعه فوق قرني الثور. ولسنا ندري لِم فعل ذلك. لكن ربما كان ذلك لضيق مساحة الورقة التي رُسم عليها لا غير.
ثالثاً: أن هوبر لم ينتبه للشمس الكبيرة بين قرني الثور. وربما حدث هذا لأن الإضاءة في وقت الرسم لم تساعده على رؤيتها.
النقوش الثلاثة
النقش الأيمن:
وهو ملتصق بصورة الثور- الإله، ومكوّن من تسعة أحرف. واحد من هذه الأحرف لم يرسمه لنا هوبر بشكل سليم. فهو في الحقيقة حرف الواو المكوّن من شبه دائرة يقطعها خط. ويُقرأ النقش كله على النحو التالي:
«زن وبش بن ود».
وبش يجب أن يُقرأ وابش. ووابش اسم شهير في الجاهلية حسب المصادر العربية. كما أن ود أيضاً اسم شهير. وقد يبدو أن هذا النقش اللصيق بالثور- الإله من توقيع حافر الوجه. إلا أنني لا أميل إلى ذلك بقوة. إذاً يبدو لي أن النقش الأسفل الذي امَّحى هو توقيع الحفّار.
النقش الأسفل:
وما دام هذا النقش قد مُحي، فلا مفر سوى الاستناد إلى رسم هوبر له.



وهو يُقرأ هكذا: هـ بك لسعدن
أي: هذا البك لسعدان.
أو: البك لسعدان.
فالهاء قد تكون عديل «أل» التعريف أو اسم إشارة بمعنى: هذا. ويبدو لي أن النقش يشير إلى صورة الإله ذي القرنين على الصخرة. لكن هذا ليس مؤكداً بالطبع، إذ يمكن لكلمة «بك» أن تشير إلى النقش الذي كتبه سعدان. لكن في الحالتين، يبدو أن الكلمة تشير إلى الحفر نقشاً أو رسماً.
والحق أن هناك في القواميس ما يؤكد أن البك هو الحفر، إذ إن باك الشيء: «حفر فِيهِ وَنقش... وَعين المَاء أثار ماءها بِعُود وَنَحْوه ليخرج» (المعجم الوسيط). يضيف اللسان: «البَوْك تَثْويرُ الماء، وفي التهذيب: تَثْوير العين يعني عين الماء. يقال: باكَ العينَ يبُوكها. وفي الحديث: أن بعض المنافقين باكَ عَيْناً كان النبي، صلى الله عليه وسلم، وضع فيها سهماً» (لسان العرب). ثم يزيد الماتريدي: «البوك كالنقش والحفر في الشيء» (الماتريدي، تأويل أهل السنة). ويردّد هذا ابن هشام: «البوك كالنقش والحفر في الشيء» (سيرة ابن هشام).
وإذا صحّ هذا، فهو سيجبرنا على إعادة قراءة عشرات النقوش الثمودية التي ترد فيها كلمة «بك»، والتي فُهمت فيها هذه الكلمة على أنها تعني «بِكَ»، أي بواسطتك. وما ساعد على هذا الفهم المشكوك فيه هو ورود كلمة «هرضو» أو «هرض» قبل كلمة «بك» في عدد كبير من النقوش التي نتحدث عنها. إذا فُهم أن هذه الكلمة مكوّنة من هاء نداء ومن اسم الإله رضو بعدها. أي «يا رضو بك كذا وكذا». غير أن نقشنا يشكك بشدة في هذا الفهم، ويطرح احتمال أن يكون «الرضو» شيئاً يحفر. ومن المحتمل أنه حفرة تجتمع فيها المياه. أو أنه هو «الروض»، وهو منخفض تتجمّع فيه المياه، وتنبت في النباتات بقوة. ولدينا نقوش تدعم هذا مثل النقش أدناه الذي يقول: «هرضو وهنفيوت لمعدو».



وواقع عطف «رضو» على «نفيوت» يشير إلى أن رضو ليس اسم إله. وربما كان طرازاً من «الروض». وأغلب الظن أن نفيوت صيغة من «النفيّة» التي يبدو أنها مكان لتجمع ماء المطر، أو آلة لسحب الماء من تجمع لماء المطر. قال الشعار الأخيل:
كأن متنيَ من النفيِّ
من طول إشرافي على الطويِّ
مواقع الطير على الصفيِّ

النقش الأعلى:
وهو النقش الأصعب من بين الثلاثة. ذلك أنه يحوي في ما يبدو كلمة «صلم» التي استند إليها للافتراض أنه الإله الشهير الذي عرفناه من مسلّة تيماء. ويبدو لي أن هوبر لم يرسم الحرفين الثالث والخامس بشكل سليم. أما الثالث فهو حرف اللام لكنه مقلوب عند هوبر، كما يتضح مقارنة برسمي له في الصورة أدناه.



لكن قلبه لا يمثل مشكلة، فهو الحرف ذاته. المشكلة تقع في الحرف الخامس. فهو نون أو أشبه بالنون عند هوبر، لكنه لام عندي.
بناءً عليه، ولو أبعدنا الحرف الأول الذي يبدو لي وجوده ملغزاً وقرأنا ما تبقّى بناءً على رسم هوبر، فسيكون النقش هكذا:
«صلم نتنت»
والجملة توحي بأن «صلم» هنا تعني: تمثال أو صورة. أي أننا لسنا مع الإله «صلم» الشهير لكن مع تمثال لإله أو إلهة يدعى/ تدعى «نتنت». لكن المشكلة أننا لا نعرف إلهاً بهذا الاسم. وهذا ما يدفعني لتجريب قراءتي للحرف الخامس على أنه لام وليس نوناً. وبناءً على هذا فالنقش يقول:
«صلم لـ تنت»
وهذا في الحقيقة مفاجئ جداً. فنحن هنا مع الإلهة الفينيقية «تانيت» في ما يبدو. فهل من المعقول أن نعثر على الإلهة تانيت الفينيقية في نقش في منطقة تيماء؟ على أي حال، هناك ما يؤيد أن الأمر يتعلق بالإلهة تانيت لا بالإله صلم. فهناك رمزان على يسار صورة الثور ذي القرنين ويمينها، لم يهتم بهما هوبر، وهما شبيهان برموز الإلهة تانيت كما رأيناها في قرطاج في شمال أفريقيا. ورمز تانيت يتكوّن من مثلث تعلوه دائرة يفصل بينهما خط مستقيم، لكي يبدو كما لو أنه رسم لبشري مؤسلب. وقد شبّه بعضهم الرمز بعلامة عنخ المصرية.



ويمكن للمرء أن يلاحظ كيف أن الرمزين بالأخضر يتكونان عملياً من مثلث غير مقفل في الأسفل ثم شبه دائرة يفصلهما عن الآخر خط أفقي. وهما يشبهان إلى حد بعيد الشكل المركزي في وسط المسلة إلى يميننا، والشكل الذي فوقه أيضاً. بل إنه يبدي شبهاً مع الرمزين يساراً ويميناً في المسلّة.
وكل هذا يدعم أننا ربما نكون مع الإلهة «تانيت». وإذا صح هذا، فإن صورة البقرة على الصخرة هي صورة الإلهة تانيت. وهو ما يعني أن الإلهة تانيت كانت تتمثل ببقرة، رغم أنه ليس لدينا تمثيلات لها بهذا الشكل.
نأتي الآن إلى الحرف الأول الذي أبعدناه مؤقتاً. وهو يشبه حرف الباء في أبجديات شمال الجزيرة العربية وجنوبها. لكن المختلف أن في حضنه نقطة. لكننا لا نستطيع التأكد مما إذا كانت هذه النقطة أصلية أو أنها ناتجة عن تلف في الحجر. وفي أي حال، كنا قد بينّا في ورقة سابقة أن أسماء الآلهة في النقوش الثمودية يسبقها في حالات كثيرة حرف باء لكي يشير إلى أن ما بعدها يمثل اسم إله. أي أنه ليس حرفاً، وليس له قيمة صوتية، باء هو علامة تخصيص للآلهة. وقلنا إن هذا التقليد متابعة لتقليد في نقوش مقطعية جبيل حيث تكون الباء اختصاراً للاسم «بعل». لكننا نجد أن هناك نقطة داخل الباء في نقشنا ربما لتفريقها عن الباء العادية. وربما تشير كتابة الباء بهذه الطريقة إلى أن هذا النقش هو الأقدم بين نقوش الباء الزائدة. ووجود الاسم «تانيت» يدعم هذا.

* شاعر وباحث فلسطيني