من مونتريال، تكتب دارين حوماني عن بيروت، لكنها تكتب عن ذاتها هنا وهناك، فتصبح القصيدة أكثر من مرآة لما يحدث لها، كأنها في ذلك المكان الآخر، تحاول أن تقول إنّها ابتعدت لتجد بيروت أكثر، أو تجد ذاتها أكثر، فتقول في أول قصيدة في مجموعتها الشعرية التي تحمل عنوان «عزيزتي بيروت، هنا مونتريال» (دار العائدون للنشر والتوزيع- عمّان): بدأت برؤية أشياء لم أرَها من قبل/ العلاقة بين الموت والولادة من جديد». هكذا ترتّب الولادة الجديدة للشاعرة مرادفات أخرى، ويبيّن لها قاموسها أن العلاقة مع المكان الجديد، هي تلك العلاقة مع اللغة التي تختبر داخلها كل حزنها وألمها، فتسأل: «ماذا لو جئت إلى هذا العالم من دون أن أشعر بالخسارة؟». وهنا طبعاً تجد مكاناً يتسع لتلك الأسئلة وهي تعرفها بدون إجابات، وكأن الشعر مكان آخر دائم يحتضن كل تلك الأسئلة.في تلك السلاسة الجميلة بين جملها الشعرية، نقرأ تلك الخلاصات التي تصل إليها حوماني، ونطالع ذلك الصمت التام الذي تقول عنه في قصيدة تسميها «الحياة» إنّه عمل لا يمكن تحمله. لكنها تذكّر نفسها: «ينبغي أن أعثر عليه داخلي». ربما تصبح اللغة هنا هي صمت دارين الذي تحاول أن تحرره من داخلها. فكل جملة نشعر أنها ثمرة ما تبحث عنه في الداخل. وقد قد يكون هو الصمت الذي لا يمكنها تحمله.


وهنا أيضاً تكتشف ما تسميه «القطيعة»، في قصيدة تحمل الاسم نفسه. تستحضر هنا بينيلوب وتذكّر نفسها بأنه: «لمواجهة الغرفة المقفلة/ يجب تجنب الذكريات». هكذا تواصل الشاعرة وضع يدها على ما يؤلمها لتذكير نفسها بأسباب الألم والبحث عن معنى وجودها، لكنها لا تغرقنا في تلك الجمل المهمة عن وجودها، فتنزاح أحياناً إلى اكتشافات أخرى أكثر عذوبة وخفّة فتقول: «كي أكتب/ أريد أن أقرأك أولاً».
تتواتر جمل الشاعرة بين خلاصة التجربة وبين الأسئلة التي لم تجد إجاباتها، فيبدو الشعر كأنه ذلك الفضاء المعلّق بين الأسئلة والإجابات، أو ربما تلك المساحة الحية بين ما تدركه وما تريد اكتشافه، فتقف في تلك المسافة وهي تعرف جيداً أنّ الطريق طويلة لكنها جديرة بالتجربة والعيش.
هكذا تبدو الكتابة بالنسبة إلى الشاعرة هي المكان الآخر الذي تستدعيه من مكانها الجديد في مونتريال، لتستمع للتجربة ولكلماتها ولأشيائها. ربما تبدو بيروت أقرب من المكان الآخر، فتكتب لها رسالة وتقول: «أعرف تماماً أنه عليّ أن أعبر بيروت وأمضي بعيداً، كل شيء يدفعني خارجاً لأقتفي وطناً آخر». وهنا تشعر أن هذه المسافة عن بيروت ضرورية للاقتراب من نفسها أكثر، وسيساعدها الشعر في المهمة تلك.
وفي لحظة الاقتراب، تبدو نافذتها تطل على ما هو في الداخل من مشاعر وأفكار ولغة مختبئة، وأيضاً على ذلك الحزن العميق الذي تقول له في قصيدة «نافذة مطلة على حزن عميق»: أكتشف أن الذي بداخلي تلامذة فاشلون/ وقعوا لتوّهم في مرآب مخيف». وتتابع في القصيدة نفسها: «كتابي الخامس سمّيته «العبور بلا ضوء»/ كنت أريد أن أسميه النافذة الخامسة/ لأن نافذتي الخامسة هي السماء».
هكذا يفتح الشعر نوافذ حوماني على المجهول، وعلى الفضاء الذي تفتقده ليجعلها تحاور نفسها لتجد ذلك المكان الأبعد من مكانها، وتطل على الأجمل والأقرب اليها، فهي هناك أقرب إلى هنا، وربما تأتي قصائدها لتقول لها بأنّ مرآتها هي دائماً في مكان آخر.
في قصائد أخرى، يحضر الحب، وهو الآخر نافذة مفتوحة على رؤى كثيرة فتقول: «أريد أن أعيش معك/ غير مبالين بالحياة»، فتحمل تلك الأمنية معها كأنّها خشبة خلاص في عالم تود أن يفهمها. وهي تحاول أن ترتب العالم في داخلها في حفلة ضاجّة بالألم، فتقول في قصيدة «ترتيب العالم في داخلي»: «ترتيب العالم في داخلي/ تلزمه وحدة عميقة/ وقدرة كبيرة على الكره وعلى التخلي». تأتي قصيدة دارين كأنها ذلك التخلي الذي تقرّره وحدتها من أجل ترتيب العالم داخلها، وهي تحاول بناءه من جديد. هنا تبدو الكتابة أكثر من مجرد مرآة تعكس ما يحدث بل هي اصطياد لتلك الأسئلة الهامة التي تدور داخلها ومحاولة تحريك تلك البئر حيث تختبئ المشاعر.
قصائد مفعمة بالحميمية وقريبة من القارئ


تلك المشاعر التي تنقلها بلغة بعيدة عن المجاز وقريبة من قارئ يحاول هو أيضاً أن يقرأ ألمه الخاص، فتصبح الكتابة الشعرية محاولة للاقتراب من ذلك السري والخاص والحميمي، فتسأل: «هل تخاف الحروف أن تسأل عن نفسها؟» لكنها تتأكد أنّ «الحياة لا تحتاج إلى آلة تصوير».
لا يمكن الرؤية من دون الابتعاد، هكذا تقول قصائد دارين حوماني، وهي التي تتأمل من مكانها الجديد معنى السعادة، لتكتشف أنها مجرد مشهد لحبيبين عجوزين. تقول في آخر قصيدة من مجموعتها الشعرية: «من أبعد مسافة أرى حياتي/ يصعب العثور على خلاصها». فهي تجد نفسها في الداخل أكثر كما تقول في قصيدة لها بعنوان «في الداخل»: «كلما تكاثرت السنون/ أجد نفسي في الداخل أكثر».
من تلك الرؤية تأتي القصائد مفعمة بالحميمية وقريبة من القارئ، وربما يكون الشعر هو محاولة للتقرب من الذات وفهمهما ورسم الأسئلة التي تشوشها الحياة اليومية وتخفيها عن أعيننا. «عزيزتي بيروت، هنا مونتريال» تحاول أن تسرد تلك القصائد التي مرّت في التجربة التي تفصل المدينتين عن ذات الشاعرة. تنهي المجموعة بهاتين الجملتين: «الصلوات ثقوب جميلة/ الانتظار أكثر ألماً».