الراوي الذي لم نعرف له اسماً على امتداد العمل، يتوزع في تداعياته بين عشقه لرايا المتزوجة، وصداقته لسالم وعلاقته العابرة بنونا التي يلتقيها مصادفة في أحد المحطات. يبدو متهكماً من ذاته العاجزة عن الفعل المطلوب في المواقف الحرجة. يظهر سلوكه الواقعي وموقفه المتخاذل في حماية الحبيبة وتلكؤه في الدفاع عن حبه، مؤكداً بذلك على البعد النفسي الذي يلازمه في كل حركة، بمعنى أن يتنافس على التعلق بامرأة مرتبطة برجل آخر. هل الأمر يزيد الرغبة في التفوق أم هي عقدة انتصار ذكورية؟ حسّ المنافسة الذكوري يجعله يقترب دائماً من حبيبة ترتبط بآخر في حالتي رايا ونونا. وإذا جعل دمية رايا ترافقه كنوع من الالتزام والوفاء لحبيبته، لكنه لم يلتزم بالمعنى الداخلي بهذه أو تلك. لذا نراه يسقط على الدمية القماشية هواجسه وانفعالاته وتأنيب الذات الذي يعيشه ضمن احتمالاته العديدة لمبررات سلوكه وسلوك الآخرين. ففي لقائه مع نونا وعلاقته برايا وإشكالية علاقتها مع زوجها، تنمو بقية الحكايات.
من حكايته الأولى تتولد حكايات ضمن شبكة علاقاته، فهو الصحافي في القسم العربي لمجلة أنباء موسكو، تربطه بزميله سالم صداقة خاصة تفتح مجالاً لحوارات عميقة برزت في إيضاح وجهة نظره بالجمال. إذ يفرق بين الجمال الدارج الذي يلحظه ويعجب به الجميع، والجمال غير الدارج أي الاستثنائي الذي لا يراه ولا يكتشف ملامحه إلا قلة ترى أعمق وأبعد من الملامح المتاحة للجميع. يشبّه ذلك بجماليات الخطوط العربية، فالخط الكوفي هو الأكثر لفتاً للنظر وأول ما تقع عليه عين القارئ في لحظ الزخرفة قبل المعنى. أما خط الثلث فهو لا يغيّب المعنى كما لا يخضع له، بل يحوله كأداة للتعبير عن معنى آخر مضمر لا يتبدى بسهولة. يطل بعدها على قصة الشاعر الصوفي عماد الدين نسيمي (1369 ــــ 1417) في إشارة لـ «العقيدة الحروفية» المجهولة لدى أغلبنا في تفاسيرها الباطنية التي تقول بأنّ «العبادة هي اللفظ، وبه يمكن للإنسان الاتصال بالله، والمعرفة هي أيضاً معرفة الألفاظ لأنه مظهر الموجودات، واللفظ لذلك مقدم على المعنى». ومبرر ذكر هذا المتصوف، هو محاولة رايا إيجاد قواسم مشتركة بين الشعب الأذري والسوري. وعلى الرغم من أن نسب عماد الدين نسيمي موزع بين التركية والأذرية والتركمانية نظراً إلى الشعبية العالية التي تمتع بها، إلا أنّ الأكيد أنه مات ودفن في حلب بطريقة قاسية، إذ سلخ جلده قبل أن يعدم شأن المتصوفين في ذلك الزمن.
العتبات النصية تمتد على مساحة النص، فالعنوان «منديل بالفراولة» يحمل دلالة عشق منذ أن تركت له رايا ثلاث حبات منها وتحتها قصاصة لموعد غرامي، ما يجعل الكاتب يؤكد على المحمول الثقافي للفراولة في إشارات عدة راوحت بين معاني العفة والإغواء بدءاً من دلالة الثالوث المقدس لورقة الفراولة الثلاثية، وجرح المسيح في بتلات زهرتها الخمس، وصولاً إلى أعمال أدبية عدة مثل «النفوس الميتة» لغوغول ورواية «الدخان» لايفان تورغينيف وفي ثلاثية الهولندي هيرونيموس بوش حيث بدأت الفراولة تأخذ معانيها الخليعة للهوى والإغواء، بعيداً عن المعاني الفاضلة.
شخصية غارقة في ذاتها تتأمّل عالم الكائنات الخاص
الراوي هو الشخصية الأساسية التي تتفاعل الأفكار والأحداث في داخلها. شخصية غارقة في ذاتها، تتأمّل عالم الكائنات الخاص من جماد وحيوان ونبات، فللأشياء أرواح، البنايات؛ الحيوانات؛ الشوارع؛ إلى درجة نراه يفكر بحنان وهو ينتظر ليلتقي كلباً اعتاد رؤيته عندما ينزل عن الدرج ويتمسح به، في اهتمام بالغ بتفاصيل الحياة الصغيرة والحميمة، غير آبه بالتسميات والمصطلحات الكبيرة، أو بالقضايا المصيرية العاجلة على حساب الحياة المقدسة للإنسان، فالإنسان أولاً وبعده تأتي الأمور الأخرى.
جاءت النهاية لتؤكد ما أثث له الكاتب في العمل. نهاية مفتوحة على احتمالات عدة. إذ يستغرق البطل في عالمه الذاتي والحكايات والمواقف غير المحسومة بداخله ومشاعره المتضاربة. يظلّ مع نفسه فقط، ذاته المتشظية عبر الشخوص والزمن والتاريخ.