تحتّم الحياة على الجميع عدم الالتفات إلى الجمال. في ظلّ تأثر العالم كلّه بالحداثة، لم يصبح لدى الإنسان إلا جمال عابر يراه ولا يتأثر به، يقترب منه لكنه لا يستطيع مسّه. ثمة قطيعة بين الإنسان والجمال الآن، ولكن هل الجميع يستوعب الجمال؟ هل الجمال الضئيل في عالمنا اليوم يستطيع المرء بسهولة فهمه؟ نُشرت رواية «نحو الجمال» عام 2018 عن «دار غاليمار» الفرنسية، وتمت ترجمتها إلى العربية أخيراً لتصدر ضمن سلسلة «إبداعات عالمية» (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت ــ ترجمة محمود المقداد). عندما سُئل دافيد فوينكينوس عن الرواية، لخّصها في ثلاث كلمات: «قطيعة، تدمير، انتقام». وبالبحث عن معنى كلمة «قطيعة» في القاموس، فإنّها تعني «ما قطعته من الشيء». لعلّ رأي فوينكينوس خاطئ تماماً حول روايته أو بمعنى أدق، لا يمكن اختزال الرواية في ثلاث كلمات.


ولو اختزلت في ثلاث كلمات، فالأكيد أن القطيعة ستكون ضمنها، لكن بمعنى أن تقتطع من الزمن لحظةً ما لفهم الجمال واستيعابه. لحظة ليمشي المرء إلى الجمال مدفوعاً برغبة في استيعابه لا المرور السريع عليه. هناك نوع من الجمال لا يُفهم إلا من خلال ألم ما يلمّ بصاحبه، وثمة جمال يتوارى لا يُرى، رغم أنه يحوط المرء من جميع جوانبه إلا من خلال الألم. وربما هذه قصة أنطوان دوريس بطل رواية فوينكينوس الذي بحث عن الجمال ولم يفهمه إلا عند مروره بألم ما. يرسم دافيد فوينكينوس (1974) عالماً بالغ التعقيد عبر البحث عن الجمال، من خلال شخصيتين رئيسيتين هما أنطوان دوريس وكاميل. يرسم طريقاً طويلاً إلى الجمال المتواري الذي لا نلمحه إلا من خلال المشي في درب مليء بالألم. يعمل أنطوان دوريس أستاذاً للفنون الجميلة في إحدى الجامعات في مدينة ليون. يقرّر في لحظة ما مغادرة كل ما صنعه طيلة حياته، ليعمل حارساً في «متحف أورسيه». لم يفهم أحد سبب عمله، غير أنه في قرارة نفسه كان يبحث عن الجمال. يبحث عن الجمال بداخله كسلوى وعزاء للقطيعة مع زوجته. قطيعة مع عالمه الذي تركه، ورأى أنّ خير ما يفعله لنفسه هو أن يعمل حارساً في المتحف، ويتحدث إلى اللوحة المعلقة أمامه. قال دوريس: «فكل يبحث عن طريقه الخاص إلى السلوى، هل يمكن للمرء أن يعالج نفسه بالبوح إلى لوحة؟ إن المرء ليتحدّث كثيراً عن فن العلاج وعن الإبداع من أجل التعبير عن انحراف المزاج، ومن أجل أن يُفهم عبر الإلهام. غير أن هذا كان مختلفاً. فتأمُّل الجمال، عند «أنطوان»، تغطية للقبح (ولطالما كان الأمر كذلك). ولذا كان عندما يشعر بسوء، يذهب للتنزُّه في متحف. تبقى الروعة السلاح الأفضل ضد الهشاشة».
غطى دوريس قبح حياته بطريقة ما، بأن تحدث إلى لوحة معلقة، يبوح لها بأسراره، بشعوره، بما يؤلمه. تحرك من ألمه الخاص إلى الجمال بحثاً عن تعزية. خلال أربعة فصول، يربط فوينكينوس بحث دوريس عن الجمال بأنه مرتبط بمحاولة تعزية نفسه من قطيعة زوجته، لكن خلال الفصول يتضح أن بحث دوريس عن الجمال كان سلوى لانتحار تلميذته كاميل التي تجد أيضاً في الجمال سلوى عما ألمّ بها. اغتُصبت كاميل من معلم الرسم في المرحلة الثانوية، لتُصاب باكتئاب شديد لم يخرجها منه إلا رحلة طويلة مع أمها وأبيها إلى «متحف أورسيه». تقول عند وقوفها أمام اللوحة: «أدركت قدرة الجمال على لَأم الجراح. فأمام لوحةٍ ما، لا نكون محكومين، لأن المبادلة نقية، حيث يبدو العمل كأنَّه يفهم ألمنا ويُفرَّج عنا بصمت، ويبقى إلى الأبد ثابتاً ومطمئناً، وغايته الوحيدة هي أن يغمرك بأمواج الجمال. فتنسى الأحزان مع بوتيتشلي (1445-1510)، وتخف المخاوف مع رامبرانت (1606-1669) وتتقلص الهموم مع شاغال (11887-1985)».
لخّص المؤلّف روايته في ثلاث كلمات: قطيعة، تدمير، انتقام


يربط فوينكينوس مصير دوريس وكاميل ببعضهما، فكلاهما أذهله الجمال وقدرته على لأم الجراح. لكن الأكثر إثارة في العمل هو هجرة كليهما مكانه الأصلي إلى مكان آخر، وذكر كلمة المشي كثيراً على ألسنة كليهما، وعدم اختزال الجمال في فكرة واحدة. فقد أضاف إلى فكرة البحث عن الجمال كثيراً، ولم يختزله في لوحة أو الحديث إليها، تقول كاميل: «يمكن أن يشفى المرء أحياناً بتحولٍ جغرافي بسيط». وربما هذا معنى آخر يؤكد فكرة العمل وهي محاولة السير نحو الجمال والتفتيش عنه. كلاهما تحرّك من فجيعة ما. كاميل تحرّكت من فجيعة اغتصابها، ودوريس تحرّك من ظنه بأنه السبب في انتحارها لأنه كتب لها تقييماً عادياً على إحدى لوحاتها. تتكرّر جمل كثيرة كـ «الجمال يزيد المرء قوة»، «الجمال يُريح». وربما ما يراه القارئ بعد انتهائه من العمل أنّ الجمال ينقذ عالمه الشخصي، يردم الفراغ من حوله، وربما يكون هذا الجمال في لوحة أو قصيدة أو رواية. الحياة مليئة بالجمال، لكن لفهمه، ربما يجب أن يمر المرء قبله على ألم ما يغيّر فكرته عن الجمال وأثره. القطيعة ربما ـــ رغم معانيها الكثيرةــــ تصبح الطريق الذي ينفض عن أي شخص تراباً يعميه عن رؤية الجمال من حوله.