الإنسان في مرمى الموت، إنسان منطقة شرق المتوسط كان وما زال. هذه هي الحقيقة التي يشي بها غلاف رواية «أرض الأرجوان» (دار فواصل ــ 2022) لغنوة فضة، حيث البقعة الحمراء بقعة التصويب وشارة الاستهداف على التاريخ وعلى الجسد كعتبة نصية ولجت بعده إلى استهلالة أخرى، بدت كرسالة وداع أو وصية شخص ما قبل موته إلى زوجته التي لم تكن، ولم تعطهما الحياة فرصة ليكونا معاً. تدخلنا الكاتبة السورية بعدها إلى حكاية قديمة حصلت في راميتا في عام 299 ق .م. حكاية حصلت في أرض «أرض الأرجوان» الاسم الذي عنونت به نصها، ليقود القارئ للتساؤل عن ماهية هذي الأرض وكنهها، ما يثير تساؤله ويدفعه إلى معرفة حقيقة وجودها ومكانها. نعرف الحكاية التي أسهبت الكاتبة في وصف الطريقة الرومانسية لقصة حب بين جايون وأماليا وأسلوب تعارفهما. الجميلة تاهت في الغابة لتلتقي بصياد شاب ينقذها من الضياع، هو الصياد جايون الذي يعرفنا على الأرجوان، فالأرجوان هو اللون المستخرج من نوع معين من الأصداف كان يصطادها الصيادون في تلك المنطقة، ليلونوا بها الأقمشة والصادرات الأخرى كعلامة تُعرف بها حِرف المكان. وهو إلى ذلك شهد مأساة مجزرة قتل أهله أمام عينيه، لذا بقي حارساً للُقى الأثرية والأحفورات القديمة والآثار التي تحكي موروثه الثقافي وتاريخه.


عبر نمو العشق هذه، تسرد صاحبة «شجرة الكليمونتين» تاريخ المنطقة في ذلك الزمن الغابر من أيام الملك سلوقس الأول/ نيكاتور/ أي المنتصر، أحد قادة الإسكندر المقدوني ومؤسس الأسرة السلوقية التي حكمت في ذلك الزمن، وحكم ابنه انتيوخوس من بعده، حيث الحروب الدائرة والمعارك الحامية الوطيس جعلت المنطقة مكاناً يجمع أخلاطاً من الخلق والأمم والقوميات والأجناس المختلفة. أقوام جاء بعضها مع الغزو، وبعضها الآخر بالتهجير والترحال. كلها سكنت المنطقة واختلطت الأعراق والأجناس حتى انبثق منها إنسان اليوم بعد سلسلة طويلة من تلاقح البشر. تنتقل الكاتبة بعدها إلى قصة عشق جديدة بطلها ابراهيم وأميمة في الزمن القريب. إبراهيم ناصيف يكتب حكاية جايون وأماليا، ويحتفظ بلقى قديمة وآثار وترجمات للغة قديمة مكتوبة. يتقصى التاريخ من خلالها ويطل على الحاضر.
لقد نجحت الكاتبة في خلق رواية متشابكة الأحداث والأزمان ومحورية الهدف، مسرحها ضفاف المتوسط. امتدت خيوطها لتصف تاريخ الحرب والسيطرة الآتي من عمق التاريخ وحتى وقتنا الحاضر. تؤرخ للعنف الذي يجتاح المكان ويهدم الحضارة والعمران في تشابه الشخصيات وتشابك أقدارها. فكما كان لجايون احفورات ونفائس ومقتنيات أثرية، كان لإبراهيم ناصيف خبايا وخفايا ومقتنيات مهددة من قبل جهلة لا يفقهون معنى الأثر ولا قيمة الحضارة الإنسانية. ينتهي جايون الثائر لمصرع أهله بالإعدام بعد تهمة حاكها له أعداؤه، كما ينتهي ابراهيم على يد الجماعات المتشددة التي ارتدت لبوس الدين وهي منه براء. لعلّ مصرعه يشبه مصرع الآثاري الشهير خالد الأسعد الذي قضى وهو يحمي آثار تدمر في التاريخ القريب على مرأى من العالم المتحضر، لتشهد مصرع الإنسان على مذبح الجهل والعدالة الغائبة والحرب بكل قسوتها ومخازيها.
ظهرت اللوحات الأخرى المكملة للمشهدية العامة للرواية مثل قصة الراعي وقصة المجند، ورفيقه بائع الكتب المستعملة والطبيب الذي يشتغل ضمن آلة الحرب في الإتجار بالأعضاء البشرية ويكسب أموالاً طائلة... كلها موتيفات شكلت عمارة العمل، مستفيدة من تقنية تعدد الأصوات السردية. إذ تنفع كل حكاية من حكاياتها أن تكون قصة قصيرة قائمة بذاتها، لكنّ الكاتبة ربطت في ما بينها بذكاء، وحمّلت عملها طبقات تبرز من طبقات. استحضار الكاتبة لحكايات من زمن غابر بدا كأنه استدعاء لحكايات «ألف ليلة وليلة»، خصوصاً في تقنية حكاية ضمن حكاية فإبراهيم يكتب عن قصة حصلت منذ عقود ما قبل الميلاد؛ وقصة إبراهيم يقرؤها مجند حصل عليها مصادفة من جهة، وترويها أميمة من جهة ثانية في وقتنا الحاضر.
استفادت من تقنية تعدد الأصوات السردية


سيطر الوصف الخارجي للأمكنة والطبيعة والبشر على حساب الغوص في دواخل الشخصيات ورصد متغيراتها بغية وضع القارئ في الجو التاريخي لاستحضار قصة من غابر الزمن وربطها بالحاضر. اعتمدت الكاتبة إلى حد ما الرسم الأحادي للشخصية أو الصفات النمطية الواحدة حيث الشخصية خيرة من البداية إلى النهاية أو العكس. حبذا لو أشارت إلى ما يفعله العنف من تشوه في البنى النفسية للبشر وما تولده الرغبة بالانتقام من تحول في مفاهيم النبالة والطيبة والاستقامة. إذ يفترض بالشخصية النمو والتحول وسط الضغوط والمتغيرات الطارئة عليها، لكننا لم نلحظ دخولاً في عوالم الشخصيات ورصد تناقضاتها مع ذاتها ومع المحيط وتناقض الأفكار وتمترس البشر وراء أوهام بعيدة عن مصالحهم. نعم هي رفضت الحرب وأظهرت آثارها المدمرة على البشر والحجر، لكن حبذا لو دخلت وكشفت عن محركات السلوك والدوافع لارتكابات الشخصيات العنفية، ما كان ليخلق إقناعاً أكبر لدى القارئ. ولعلّ الكاتبة استدركت ذلك عبر شخصية الطبيب، وهي الوحيدة التي طرأت عليها المتغيرات. وظّفت الكاتبة العمق التاريخي لمنطقة الساحل السوري، فالشخوص اليوم هم أحفاد أولئك، والحرب تتكرر بلبوس أخرى. الحرب تطلق عنفاً فالتاً من عقاله، لا يميز بين مرتكب وبريء، ويصادر حياة كانت منذورة للعشق والشموس، ويخنق أحلامها الصغيرة بعيش هانئ وسلام... لتكون الرواية صرخة واحتجاجاً بوجه العنف أينما كان في أي زمان.