«كيف لحُبّ رجل أن يصرعنا حتى نفقد ذواتنا، حتى تمسي غريبة عنا، حتى نعجز عن فهم تفكيرنا الجديد على الرغم من مخالفته كل منطق... وكل حقيقة؟ لقد مسخني يونس بحري ومضى. لقد حولني حبّه إلى شيء، شخص، هيكل، كيان لا يشبه أبداً ما كنته قبل لقائه، وكأنه مسخني إلى شيء آخر فعلاً». بهذه الكلمات تعبّر جولي فان ديرفين، إحدى زوجات يونس بحري العديدات، عن انهيارها بعد رحيله عنها في رواية العراقي سامي البدري «يونس بحري وموانئ الليل» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـ 2022). تتناول الرواية سيرة الرحّالة والإعلامي والكاتب العراقي يونس بحري (1904-1979) وهي مستفزة للقارئ (وتحديداً للقارئات) من نواحٍ عدة. ما يلفتنا بداية هو غلاف الرواية المطبوع باللون الأزرق الذي يرمز إلى البحر الذي اشتق منه اسم البطل أو ربما دلالة على مهارة الرجل في السباحة. إذ قيل إنه اجتاز بحر المانش بمفرده. ومن هنا اكتسب لقب «بحري». الطريف أنّ صنارة صيد تمتد من اسم يونس بحري إلى البحر المليء – لا بالسمك وثمار البحر كما يُفترض بكل المساحات المائية- بل بأسماء عشرات بل مئات النساء «الحوريات» اللواتي وقعن في شباك صديقنا بحري أو «دونجوان العراقي».


تحفل الرواية بمغامرات الرجل النسائية الذي يُحكى أنه أنجب قبائل من الأطفال. نراه ينتقل من امرأة إلى أخرى بكل رشاقة، ويتخلى عن أولاده منهن بحجج واهية. يقول إنه لا يستطيع البقاء في مكان واحد مع زوجة واحدة طوال العمر. عندما «يصيح صوت الديك في رأسه» معلناً وجوب الرحيل، يحمل أمتعته تاركاً المرأة والأطفال، منطلقاً إلى آفاق جديدة غير آبه بمصيرهم من بعده. الطريف أيضاً في الرواية هو تصوير النساء بأنهم عاشقات متيّمات بحبه، فهن يسقطن في شباكه من أول نظرة. وهن راضيات بما يقدمه لهن الأستاذ بحري، فيكفي أنه مرّ في حياتهن البائسة رجل مميز مثله! يا لسعادتهن حقاً!
ذكورية يونس بحري طاغية بقوة على الرواية، فالنساء أشبه بقلاع وحصون وأبراج عليه أن يغزوها ويحتلها ويخضعها لسلطانه الذي لا يقاوم كما تدل مفردات الكاتب المستقاة من ميدان المعارك والحروب. وصديقنا بحري كملك غازي يريد أن يترك أثراً أينما حلّ وهو أيضاً «شهريار عصره» الذي لم يترك امرأة في الشرق أو الغرب تفلت من قبضة يديه. لو كانت الفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار حيّة، لوجدت في يونس ضالتها وأشبعته تقريعاً ونقداً نسوياً شديد اللهجة، فهو يمثل النزعة الذكورية بكل تجلياتها. يفرد الكاتب مساحات حوارية لهذا الرجل المثير للجدل ليُعبر عن نفسه ويبرر أفعاله الغريبة، فيخبرنا عن فلسفته التي تقوم على استغلال الحياة لأقصى حد لأنها قصيرة جداً فلا وقت لإضاعته في الحزن والنكد وتحمل المسؤوليات العائلية.
الرواية مبنية بشكل أساسي على مذكرات تركها الرجل وحكايات قيل عنه فيها الكثير من المبالغات حتى ليكاد أن يكون أسطورة القرن. جمع البطل في شخصه كل التناقضات، فتارة يكون مفتياً إسلامياً في مساجد أندونيسيا، وطوراً راقصاً متهتكاً في ملاهي باريس. وهو على علاقة بكل السياسيين والرؤساء والوجهاء والجميع يعرفه من رشيد الكيلاني ونوري السعيد إلى محمد أمين الحسيني. وهو أيضاً المطلوب رقم 4 من الحلفاء في الحرب العالمية. حتى إنّه التقى أدولف هتلر قبل أن يصبح زعيماً لألمانيا في أحد شوارع برلين وأقرضه ديناراً ثمن العشاء لأن «الفوهرر» كان جائعاً.
يأخذ الحوار أحياناً أبعاداً سياسية وأيديولوجية، فنسمع شخصيات الرواية تنتقد بشدة إسقاط الملك فيصل الثاني في العراق وتعتبر عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف سبباً في الخراب الذي حلّ بالبلاد. للرئيس المصري جمال عبد الناصر حصة وفيرة من النقد أيضاً، فهو (وفقاً للرواية) شجّع الانقلابيين في العراق وتسبب في دخول البلاد في دهاليز مظلمة ما زالت ارتداداتها مستمرة حتى يومنا هذا. هل كان هذا موقف يونس بحري فعلاً من عبد الناصر وثورة الضباط الأحرار؟ وهل كان مؤيداً للملكية في العراق؟ أم هو موقف الكاتب الشخصي من الرجل الذي أمم قناة السويس وبنى السد العالي في مصر؟ أم هو حنين لعصر الملكية الزائل حين كان وضع العراق الأمني والاقتصادي ربّما أفضل حالاً من الأيام الحالية؟
الرواية كناية عن سيرة الرحّالة والإعلامي والكاتب يونس بحري


الرواية متعددة الأصوات، فهناك فصول مخصصة لشخصية يونس بحري وهو يسرد القصة من وجهة نظره، وفصول لابنته الغجرية إيلينا التي تسافر إلى بغداد بحثاً عن والدها الشهير من دون أن تستطيع الالتقاء به مرة واحدة. وهناك صفحات عدة للنساء العاشقات يحكين عن سحر الرجل الأخاذ. مع ذلك، لا يسهم تعدد الأصوات في تشكيل صورة موضوعية للسندباد العراقي، بل يصبُّ في خانة إضفاء المزيد من العظمة والغموض على هذا الرجل الغريب العجيب. من ناحية أُخرى، يمكن الإشادة باللغة التي كُتبت فيها الرواية، فالعبارات مسبوكة والكلمات بليغة والأسلوب رشيق. يتقن الكاتب لعبة السرد الروائي بحيث يبقى القارئ متلهفاً حتى النهاية لمعرفة مصير هذا الرجل المغامر الذي جمع في شخصيته بين التقوى والانحلال.
«يونس بحري وموانئ الليل» قصة رجل عربي مغامر قادته الصدف للقاء شخصيات تاريخية في أوج الحرب العالمية الثانية. ويبدو أنه لعب دوراً أساسياً في الدعاية لهتلر والنازية والدعوة للثورة على البريطانيين الذين كانوا يحتلون حينها العراق من خلال إذاعة «صوت العرب» التي كان يصدح صوته من خلالها «هنا برلين.... حي العرب». لكن المبالغات الروائية والإكثار من التوابل العاطفية الحارقة تجعل القارئ يُشكك في صحة كلّ هذه القصص، ويستصعب هضمها، فينهي الرواية حائراً متسائلاً: أين تبدأ الحقيقة فعلاً وأين ينتهي الخيال؟