«هل يجب أن يُناقش الفن موضوعاً؟» شغل هذا السؤال الناقد الفني الأميركي جد بيرل، فحاول التوصّل إلى إجابة في كتابه الجديد Authority and Freedom: A Defense of the Arts (السلطة والحرية: دفاعاً عن الفنون ـــــ Knopf ـــ 2022). يرصد بيرل وضع الفن في ظلّ الحالة الاجتماعية الاستقطابيّة الناتجة عن العملية السياسية، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، ما يُهدّد استقلالية الفنون ويحدّ مِن حُرية الفنان في التفكير المُبدع غير المُقيّد.جاء كتاب «السلطة والحرية...» كتحذير مِن إخضاع الفنان والأعمال الفنية الكلاسيكية أو المُعاصرة للتبعية ومعايير الصلاحية القائمة على مدى توافق (أو عدم توافق) العمل الفني مع حاضرنا واهتماماتنا الاجتماعية والسياسية. باستخدام لهجة حادة، يوجّه بيرل نقداً لأولئك المصمّمين على إعادة توجيه الفن لخدمة أهدافهم، ما يُعدّ انجرافاً خطيراً يهدّد استقلالية الفنان ونزاهته.


الفن في قراءة بيرل الفكرية، يجب أن يظل نتاج عملية تقف بمعزل عن جزء كبير من حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذا سيُبقي على دور الأعمال الفنية لتُثير تفكيرنا، وتُثري نمط حياتنا بدلاً مِن تحوّلها إلى مجرّد حامل رسائل نفعيّة موجّهة. وبغضّ النظر عن النوايا الحسنة لهذه الرسائل النفعيّة التي تربط الأعمال الفنية بالسياسة وتُحاول معالجة القضايا الاجتماعية، فهذا النمط الفكري يرتكب خطأ بإهدار القيمة المُستقلّة للفن. وكما قالت الروائية الساخرة والناقدة الأميركية فلانيري أوكونور (1925- 1964): «العمل الفني (الكتابة مثلاً) عمل دعائي، وإسناد الدعاية إلى الملائكة لن يزيد الأمور إلا سوءاً». ما يعني أنّ الرواية، كنموذج للعمل الفني، تُعد في الأساس صياغةً فنية بحتة. وعندما تستخدم هذه الصياغة لمنفعة هدف ما، فإنك تحرّفها عن جوهرها.
تخضع الأعمال الفنية لقطبَين مُتناقضين هُما السلطة والحرية. من خلال السلطة، يُدرك الفنان دروس وتقاليد وأعراف الماضي. وعبر الحرية فقط، يُمكن للفنان وضع حدٍّ لأفكار الماضي وخلق تقاليد وأعراف جديدة تنتج عنها دروس تتوافق مع الحاضر وتُمهّد للمستقبل.
يستند بيرل في فهمه للسلطة والحرية، إلى مقالَين للمُنظّرة السياسيّة حنة آرنت بعنوان «ما السلطة؟» و«ما الحرية؟». بخصوص السلطة، ترى آرنت أنّها مفهوم إيجابي، فهي تُشير إلى أنّ مصطلح (سُلطَة –authority) مشتقّ من الكلمة اللاتينية auger أي «الزيادة أو النمو». ما يعني أننا مِن خلال الاعتراف بالسلطة، فإننا نؤسّس المبادئ التي نحافظ من خلالها على نظامنا الاجتماعي. يترتب على ذلك أنّ السلطة، بالمفهوم الإيجابي، هي سلطة مُحافظة، أي أنّها قائمة على مبادئ تقليدية (مرة أخرى بالمفهوم الإيجابي). وهذا البناء الفكري هو ما مهّد الطريق لاستنتاجات بيرل حول السلطة والاستبداد لمحاولة فهم كيفية عمل الفنون في مجتمع حرّ.
يرى بيرل السلطة مِن خلال تعريفها بوصفها «التقليد القديم الذي يعتنقه الأحياء»، فالتسلسل الهرمي للقيم المُتّفق عليه بين الناس عبر التاريخ، يكتسب المشروعية وينطوي على قيم معترف بها بشكل جماعي نحتكم في ما بيننا بواسطتها. ما يعني أنّ تلك المبادئ التقليدية هي أرضية تجريبيّة واعية (أو غير واعية) نواجه عليها ونقيّم انطباعاتنا سواء كانت مألوفة أم لا، أو مريحة أم مُزعجة. وهكذا يتوصّل بيرل إلى تعريف نهائي يضع السلطة في وضع أشبه ما تكون بالمستطيل الذي يؤطّر لوحة، أو السوناتة التي تنظّم نطق الشاعر، السوناتة التي تعطي البنية والمعنى للأحداث اللحنية والتوافقية للخطاب والحوار الموسيقي.
أما الحرية، فينظّر لها بيرل كنقيض وُمكمّل للسلطة في الوقت نفسه. فالحرية هي فكر بديهي مُبتكر وخارق للقواعد ومُجازف وغريب الأطوار، أي ثوري ومُتحدي لظروف واقعه. باختصار، يشمل مفهوم الحرية كل أولئك الذين لديهم دوافع تتحدى التقاليد. وهؤلاء إذا تم استغلالهم بشكل صحيح، يحافظون على الفنون حيّة وفي حالة تطور مستمر.
إنّ النموذج الأصلي للفنان المبدع، والعبقري هو أن يكون راديكالياً أو ثورياً متشدّداً، وهذه نقطة برّاقة جداً في مفهوم الحرية لدى بيرل، لكن بيتهوفن، أو فان غوغ، أو إميلي ديكنسون وغيرهم كثيرين، امتلكوا الأساس الراسخ والأرضية الصلبة للتقليد عبر إتقان أدوات فنّهم بالرغم مِن النظرة العامة لراديكاليّتهم كفنانين. ما يعني أنّ الحرية الفنية تتضمن دائماً الانخراط في نظام ما. وهي بدورها (أي الحرية الفنية) تصبح سلطة يفهمها الفنان ويعترف بها، ولكنه لا يخضع لها بالضرورة بشكل كامل.
يُسقط بيرل عدسته التحليلية الناقدة على أعمال فنية في مجالات عِدة مثل: الكتب والشعر والموسيقى والرسم والنحت والعمارة والسينما والرقص. لذا في بعض الأحيان، يمكن أن يكون شغفه في ذكر الأسماء عبر القرون صعب التتبّع: تجد في فقرة واحدة نقلة مِن هوميروس إلى مايكل أنجلو، ومِن مالارميه إلى مارسيل دوشان، وتجد بيكاسو إلى جانب موزار مُضيفاً لهما جين أوستن، ما يجعل الكتاب يقدم استجابات نقدية (وإن شخصيّة) لفنون عدة.
لكن بالنسبة إلى بيرل، يُمثل هذا التنوع الواسع في الفنون فكرة رئيسية واحدة هي: «الفن الذي يدوم ويصمد، الذي يتجاوز الزمان والمكان، هو نتاج عملية تفاعل حيوي بين موهبة الفنان خصوصاً في سيطرته على أدواته واستغلالها، وبين معرفة الفنان بتصوّرات سابقة لزمانه مع رغبة في الانفصال عن هذه التصوّرات».
النموذج الأصلي للمبدع والعبقري هو أن يكون راديكالياً أو ثورياً متشدداً


عندما يستغلّ الفنانون الأدوات الفنية والفهم الكافي لاستيعاب نماذج وأهداف شكل فني معين، فإنه يمكنهم البدء بتأكيد حريتهم. إنها طريقة أخرى لتكرار القول المأثور القديم: «لا بد لك مِن أن تعرف القواعد والأسس لتتمكن مِن كسرها لاحقاً».
لكن بعد تحذيرات بيرل حول فرض رقابة وأجندات سياسية على الفن، لم يقدّم أي أمثلة عمَن المسؤول عن هذا. مَن يمارس هذا الضغط لوضع قواعد؟ وهل يقصد الغاية التي استهدفت المتاحف وشركات الرقص والمسرح والأوركسترا السيمفونية وجميع الشخصيات الثقافية ذات الوزن الثقيل التي، ـــ خصوصاً في أعقاب بزوغ حركة «حياة السود مهمة» ـــــ تحاول إعادة توجيه الجهود نحو مشاريع العدالة الاجتماعية؟ أم هي المؤسسات التي تخصّص الكثير من أموالها للقضايا الاجتماعية مثل مؤسسة Hewlett التي رهنت مِنحة بقيمة 300000 دولار لـ «مسرح شكسبير» في كاليفورنيا لإعادة تقديم المسرح الكلاسيكي مِن خلال عدسة المساواة الاجتماعية والتعددية العرقية والثقافية؟ أم يقصد النقاد الذين يختارون الفن المراد مناقشته؟ أم يقصد مستهلكي الفن أنفسهم أم المشاهدين وأصحاب المعارض والقرّاء والمستمعين؟
لفهم كتاب بيرل، ينبغي إيجاد أجوبة لهذه الأسئلة التي تُركَت مفتوحة، مخافة التهديد المُعتاد بالإلغاء، ما يُضفي أهمية مضاعفة لما يناقشه الكتاب عن الحرية والسلطة.
أخيراً، مِن غير المرجّح أن يُغيّر كتاب «السلطة والحرية» آراء العديد من الفنانين حول كيفية إدراكهم لعملهم. سيفعل الفنانون ما يريدون، وإن لم يكن معظمهم يحترقون اليوم بكثافة لم نشهدها منذ ثلاثينيات القرن الماضي لجعل السلطة تتحدّث عن الحقيقة من خلال فنّهم لإصلاح ما يعتبرونه تمزيقاً للنسيج الاجتماعي. وإذا سألت هؤلاء الفنانين، سيخبرونك أنّ الفن الذي لا يستجيب للمطالب الأكثر إلحاحاً، هو إهدار للوقت. إذ لم يعد الفنّ كما قال الرسام الألماني سيغمار بولك (1941- 2010): «عملاً يمزج بين المُتعة والسخط، لينتج تحريضاً لاذعاً عن الواقع في صورة مِن الجمال الوحشي»!