«عائداً من موتي/ أضخّ الحياة في عروق الحياة/ أرشّ الأرض قمحاً وأمنيات/ أشرع الصدرَ محراب صلاة/ أقول للموت: تأخّر/ في القلب متّسع للحُبّ/ في الرئتين هوى لا هواء/ للأصدقاء: مهلاً، لا وقت للدمع/ لا وقت للبكاء/ فكرةٌ عابرة هذه الحياة/ السماء ليست سقف الأبد/ الجسد جملة اعتراضية/ الروح تحنّ لأصلها/ في زفاف عودتها/ تخلع قميص التراب»: بهذه الرؤية القيامية يفتتح زاهي وهبي مجموعته الشعرية الجديدة «ليل يديها» الصادرة أخيراً عن «دار الرافدين» (بيروت/ بغداد ــــ 2022). وإذ لا قيامة إلا بالحب، فكما يقول رولان بارت: «احتاج يسوع لأن يحبّ أليعازر لكي يحييه»، فإن «عودة الروح» أو الشعر عند وهبي تستهدي بالحب. حب هو أشبه بانقلاب روحي شامل على طريقة المتصوّفة أو الميلاد الروحي الذي غيّر مجرى حياة كل من رابعة العدوية وإبراهيم بن أدهم، فيصير «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كما يشاء».

هذه الإشارة الصوفية لا تفوت زاهي وهبي منذ القصيدة الأولى، فنقرأ: «من اقترب تيقّن/ ومن «ذاق عرَف»/ لا بأس إذاً/ أن نستخرج الماء من سراب المعنى/ أن نسقي العطاشى/ أن نراقص الغيب/ أن نحلّق في الأمداء»، أو أن يكون «الصوفي الأخير» عنواناً واضحاً لقصيدة في القسم الأول من الكتاب: «أنا الصوفيّ الأخير/ أدور حولي/ أتلاشى فيّ/ أغيب/ لا من يراني/ لا من أراه/ وحدي يناجي وحدي/ والوجوه غبار». وإن كان لا بد في التجربة من مكابدة، ولكي يصل الشاعر إلى الحبيبة وليل يديها، كانت الحروب والمحن أشبه بالمطهَر، و«قلبه الذي صدّعته الحروب والمِحن/ تعقّمه صلاة أمّ/ ونظرة حانية في صباح عليل/ يملأ رئتيه بهواء حرّ/ يصرخ ملء البلاد:/ أيها الكوكب الذي أفسده بنوه/ لا خلاص لك بغير الحبّ».
المجموعة التي تمتد على 200 صفحة يقسمها صاحب «حطّاب الحيرة» إلى مقامات أو أقسام سبعة تبدأ من «طوبى لي» بالقصيدة المفتاحية القيامية بعنوان «العودة» حتى قصيدة «اكسر القاعدة»: «اكسرِ القاعدة/ اكسر الوزن والقافية/ حطّم القيد والسارية/ حطّم التمثال/ لا تنفخ فيه روحاً/ لا تنذر على اسمه القربان/ دعه يذوي/ يهوي/ يتشظى/ يتناثر هواء في هواء/ طهّر قلبك/ حرّر الهواء/ تنفّس بلا خوف/ بلا وجل/ تنبت أجنحة للكلمات». إنها دعوة إلى أن يُبرز الشعر نواته النثرية ويلتقي مع ما يقوله نوفاليس في رسالة إلى أوغست شليجل: «إن كان الشعر يريد أن يتوسّع، فإنه لن يستطيع ذلك إلّا إذا حدّ من مجاله - أي إلا إذا صار مركّزاً، أي إذا أخرج جذوته وتجمّد. آنذاك يصير ذا صبغة نثرية، وتترابط العناصر المكوّنة له بصورة أكثر صرامة-وبذلك تخسر قواعده الإيقاعية شيئاً من صرامتها- على الشعر أن يتأقلم مع تمثيل محتوى محدود أكثر. لكنّه يبقى شِعراً- وبالتالي وفياً للقوانين الجوهرية التي تقتضيها طبيعته، وعلى هذا النحو يصير كائناً عضوياً كل هيكله يخون أصله السائل، والطبيعة التي هي مرنة في أصلها، والطابع اللامحدود، والقدرة على الكلّية».
الدعوة الى التخفف إذاً من الشروط الإيقاعية وكسر القاعدة يمهّد بها وهبي للعبور الى القسم الثالث «يدها الشافية»، بعد أن نعبر في «وجهك رايتي» الذي لمّا تغادره الغنائية: «لم يبقَ لي من بلادي سوى يديك/ وصلاة أحفظها غيباً/ لم يبقَ لي سوى الأغنيات التي سمعناها معاً/ والمدى الشاسع في عينيك/ وسماءً ما استطاعوا أن يسرقوها/ والدعاء الذي ردّدته صغيراً/ والبكاء الذي عاندته طويلاً/ لم يبقَ لي من بلادي/ سوى عطر التراب العالق على راحتيك»، حيث نعثر في القسم الثالث على مقاطع من النثر الصافي: «أنا الحطّاب الذي عادت فأسه ناياً/ حين رآكِ»، أو «تغيب/ ينبض قلبه/ مثل نهر خانته الينابيع»، لنصل إلى القسم الرابع الذي استلّ وهبي عنوان مجموعته من قصيدة على صيغة ابتهال: «ليل يديها/ لا تدعني وحيداً بلا صلاة/ بارك كلمتها كلّ حين/ ضع فرح الشعوب في عينيها/ خذ بصوتها إلى ساعة استجابة/ وخذني ضوءاً في ليل يديها». الشعر هنا أشبه بالإله الأول الذي خلق العالم بخروجه منه وبعث مساحات من نور فيه وفي المادة، وعلى يد الحبيبة أن تعمل كمنقذ روحاني في عالم المِحن والسقوط لإنقاذ مساحات النور الحبيسة هناك. مساحات يجعلها وهبي أكثر سيولة ورشاقة في آخر هذا القسم حيث تصير عبارة واحدة أو اثنتان على الأكثر كافيتين لخلق الهرمونيا بين الصوت والمعنى: «مباركة كأنها من دموع المصلّين/ محرّمة كأنها من رفات الموتى»، أو «تقطفينَ ألِف نهاري/ يغدو نهراً من فضّة العناق»، و«مربكٌ غيابك/ مثل مغنّ نسي على المسرح أغنيته الأولى».
غنائية الفرح والاحتفاء بالأرض المتعافية من جرحها


في القسمين التاليين «تطيب البلاد» و«نشيد البلاد»، تعود لغة وهبي إلى غنائية الفرح والاحتفاء بالأرض المتعافية من جرحها، فنقرأ في «الجنوبيّات»: «الجنوبيات/ يجرّحهن الورد/ يحرجهنّ البكاء/ يغفو الليل على زنودهنّ/ يصفو الصباح/ الجنوبيات/ زهر الجميلة في الجهات»، ليجمع الشاعر تحت مظلّة الحب صبية الجنوب اللبناني التي يجرّحها الورد المصبوغ بالبارود بـ «أمازيغية تحت مطر باريس/ وشاعرٌ يتهجّى طيفها في الشرق البعيد/ وهي حرة كالهواء/ وهو سجين بين ألف وياء»، وبالكردية البعيدة في جبالها: «الكردية البعيدة/ تترك صوتها قمراً/ وتمضي في مطاف البلاد/ مثل نجمة بعيدة/ الكردية السعيدة/ تخبئ في ضحكتها شعباً من الأحزان/ وتمضي مع الريح/ مثل طائرة ورقية/ أفلتت من يد طفل/ يحلم بجناحين وسحابة حلوى». كأن الحب وحده الذي تحمله الريح في صوت الشاعر هو الذي سينقذ العالم: «بعد ألف عام، ألف حرب… سوف يعثرون على الريح في صوتي/ الذي لم ينصت إليه أحد يوم صرختُ:/ وحده الحب ينقذ العالم». في القسم الأخير «إلهي» الذي يفتتحه صاحب «صادقوا قمراً» بعبارة للبسطامي (أريد ألّا أريد)، يصدح الشاعر بالرؤية الصوفية التي تجمع المحبوب بالحبيب فنستذكر البيتين الشهيرين من التراث الصوفي: «رقّ الزجاج ورقّت الخمرُ/ فتشابها وتشاكلَ الأمرُ/ فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ/ وكأنما قدَحٌ ولا خمرُ»، حين نقرأ مثلاً: «لا نرى الله ليس لأنه في عتمة/ بل لأنه نورٌ على نور/ الضوء الباهر لا يُرى بالبصر بل بالبصيرة/ افتح قلبك ترَ الله»، أو «كانوا يتسابقون نحو الجنّة/ وكنت مسرعاً نحو الله»: إنه العشق بكلّ صوره وأشكاله، بين ليل في يد الحبيبة إلى يد الله المحبة ورحمته حين يدعوه الشاعر: «يا الله/ حبّاً بالأمهات/ اجعل فولاذ المدافع خردة/ وهدير الطائرات رحيق زهر/ ضع في القلوب الصدئة مواعيد
حبّ».